ولم تمكث سبايا أهل البيت (ع) زمناً كثيراً في دمشق، فقد خشي الطاغية من وقوع الفتنة ووقوع ما لا تحمد عقباه، فقد أحدث خطاب العقيلة زينب وخطاب الإمام زين العابدين (عليه السّلام) انقلاباً فكرياً في جميع الأوساط الشعبية والأندية العامة، وأخذ الناس يتحدّثون عن زيف وكذب الدعاية الاُموية من أنّ السبايا من الخوارج، وإنّما هم من صميم الاُسرة النبوية، وقد جوبه يزيد بالنقد حتى في مجلسه، ونقم عليه القريب والبعيد، وقد رأى الطاغية أن يسرع في ترحيل مخدرات الرسالة إلى يثرب ليتخلّص ممّا هو فيه، وقبل ترحيلهم أمر بانطاع من الأبريسم ففرشت في مجلسه، وصبّ عليها أموالاً كثيرة، وقدّمها لآل البيت لتكون دية لقتلاهم وعوضاً لأموالهم التي نهبت في كربلاء، وقال لهم:
خذوا هذا المال عوض ما أصابكم.
والتاعت مخدرات الرسالة، فانبرت إليه العقيلة أمّ كلثوم – وأكبر الظن – أنّها زينب، فصاحت به:
(ما أقل حياءك وأصلف وجهك، تقتل أخي وأهل بيتي وتعطيني عوضهم).
وقالت السيّدة سكينة:
(والله ما رأيت أقسى قلباً من يزيد، ولا رأيت كافراً ولا مشركاً شراً منه، ولا أجفا منه..) (1).
وباء الطاغية بالفشل، فقد حسب أنّ أهل البيت تغريهم المادة، ولم يعلم أنّهم من صنائع الله، فقد أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.
السفر إلى يثرب
وعهد الطاغية إلى النعمان بن بشير أن يصحب ودائع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إلى يثرب ويقوم برعايتهن (2).
كما أمر بإخراجهنّ ليلاً من دمشق خوفاً من الفتنة، واضطراب الرأي العام (3).
وصول النبأ إلى يثرب
وانتهى نبأ الكارثة الكبرى بمقتل سبط الرسول (صلّى الله عليه وآله) إلى يثرب قبل وصول السبايا إليها، وقد حمل النبأ عبد الملك السلمي إليها بأمر من ابن مرجانة، وقد وافى به عمرو بن سعيد الأشدق حاكم المدينة، فاهتزّ فرحاً وسروراً، وقال:
واعية بواعية عثمان (4).
وأمر بإذاعة ذلك بين الناس فهرعوا وقد علاهم البكاء نحو الجامع النبوي، وأسرع الأشدق إلى الجامع فاعتلى أعواد المنبر وأظهر أحقاده وسروره بمقتل سبط الرسول (عليه السّلام) فقال:
(أيّها الناس، إنّها لدمة بلدمة، وصدمة بصدمة، كم خطبة بعد خطبة، حكمة بالغة فما تغني النذر، لقد كان يسبنا ونمدحه، ويقطعنا ونصله، كعادتنا وعادته، ولكن كيف نصنع بمن سلّ سيفه علينا يريد قتلنا إلا أن ندفعه عن أنفسنا..).
وقطع عليه عبد الله بن السائب خطابه، فقال له: لو كانت فاطمة حيّة، ورأت رأس الحسين لبكت عليه، وكان هذا أوّل نقد يجابه به حاكم المدينة، فصاح به:
نحن أحقّ بفاطمة منك، أبوها عمّنا، وزوجها أخونا، وأُمّها ابنتنا، ولو كانت فاطمة حيّة لبكت عليه، وما لامت من قتله (5).
لقد زعم الأشدق أنّ سيّدة النساء فاطمة (عليها السّلام) لو رأت رأس عزيزها لما لامت من قتله ولباركته، لأن في ذلك دعماً لحكم الاُمويّين، وتشييداً لعروشهم، وبسطاً لسلطانهم الذي يحمل جميع الاتجاهات الجاهلية.
إنّ سيّدة النساء لو كانت حيّة ورأت فلذة كبدها في عرصات كربلاء، وهو يعاني من الخطوب والكوارث التي لم تجرِ على أي إنسان منذ خلق الله الأرض، لذابت نفسها حسرات، وقد روى عليّ (ع) عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال:
(تحشر ابنتي فاطمة يوم القيامة ومعها ثياب مصبوغة بدم ولدها، فتتعلّق بقائمة من قوائم العرش، فتقول: يا عدل أحكم بيني وبين قاتل ولدي، فيحكم لابنتي وربّ الجنة) (6).
ويقول الشاعر:
لابدّ أن ترد القيامة فاطم وقميصها بدم الحسين ملطّخ
فجيعة بني هاشم
وفجع الهاشميون بقتل زعيمهم، وعلا الصراخ والعويل من بيوتهم، وخرجت السيّدة زينب بنت عقيل ناشرة شعرها وهي تصيح:
(وا محمداه، واحسيناه، وا اخوتاه، واخوتاه، وا أهيلاه). وجعلت تخاطب المسلمين قائلة:
مَاذَا تَقُولُونَ إِنْ قــــَالَ النَّبِيُّ لَكُمْ
مَاذَا فَعَلْتُمْ وَأَنْتُمْ آخِرُ الاُمُــــَمِ
بِعِتْرَتِي وَبِــــأَهْلِي بَعْدَ مُفْتَقَدِي
مِنْهُمْ أُسَارىَ وَمِنْهُمْ ضُرِّجُوا بِدَمِ
مَا كَانَ هَذَا جَزَائي إِذْ نَصَحْتُ لَكُمْ
أَنْ تَخْلُفُونِي بِسُوءٍ فِي ذَوِي رَحِمِي
فأجابها أبو الأسود وهو غارق في البكاء يقول:
(رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِن لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)، وعلاه الجزع وراح يقول:
أقول وزادني حنقاً وغيظاً
أزال الله ملك بني زياد
وأبعدهم كما بعدوا وخانوا
كما بعدت ثمود وقوم عاد
ولا رجعت ركائبهم إليهم
إذا وقفت يوم التناد (7)
مأتم عبد الله بن جعفر
وأقام عبد الله بن جعفر زوج العقيلة زينب مأتماً على ابن عمّه سيّد شباب أهل الجنة، وجعل الناس يفدون عليه زرافات ووحداناً، وهم يعزّونه بمصابه الأليم، وكان عنده بعض مواليه يسمّى أبا السلاسل، فأراد أن يتقرّب إليه لأنّ عبد الله قد استشهد ولداه مع الإمام الحسين فقال:
ماذا لقينا من الحسين؟
ولمّا سمع ابن جعفر مقالته حذفه بنعله، وقال له:
(يا ابن اللخناء، تقول ذلك في الحسين، والله لو شهدته لأحببت أن لا اُفارقه حتى أُقتل معه، والله إنّه لما يسخى بنفسي عن ولدي، ويهوِّن عليَّ المصاب بهما إنّهما اُصيبا مع أخي وابن عمّي مواسين له صابرين معه..).
وأقبل على حضار مجلسه فقال لهم:
الحمد لله، لقد عزّ عليَّ المصاب بمصرع الحسين أن لا أكون واسيته بنفسي، فقد واساه ولداي (8).
رأس الإمام في المدينة
وأرسل الطاغية يزيد رأس ريحانة رسول الله وسيّد شباب أهل الجنة إلى المدينة المنوّرة لإشاعة الرعب والخوف، والقضاء على كل حركة ضدّه، وجيء بالرأس الشريف إلى عمرو بن سعيد الأشدق حاكم المدينة، فأنكر ذلك وقال:
وددت والله أن أمير المؤمنين لم يبعث إلينا برأسه.
وكان في مجلسه الوزغ ابن الوزغ مروان بن الحكم فهزأ منه وقال:
بئس ما قلت: هاته.
وأخذ مروان رأس الإمام وهو جذلان مسرور، وجعل يهزّ أعطافه بشراً وسروراً ويقول بشماتة:
يا حبذا بردك في اليدين ولونك الأزهر في الخدين وجيء برأس الإمام فنصب في جامع الرسول (صلّى الله عليه وآله)، وهرعنّ نساء آل أبي طالب إلى القبر الشريف بلوعة وبكاء،
فقال مروان:
عجّت نساء بني زبيد عجةً كعجيجِ نِسوتنا غّداةَ الأرنبِ
وجعل مروان يبدي سروره، وهو يقول:
والله لكأنّي أنظر إلى أيام عثمان.. (9).
ثمَّ التفت إلى قبر النبيّ (صلى الله عليه وآله) فخاطبه:
يا محمّد، يوم بيوم بدر.. (10).
لقد ظهرت الأحقاد الاُموية بهذا الشكل الذي ينمّ عن جاهليّتهم وكفرهم، وأنّهم لم يؤمنوا بالإسلام طرفة عين.
السبايا في كربلاء
وطلبت سبايا أهل البيت من الوفد الموكّل بحراستهم أن يعرّج بهم إلى كربلاء ليجدّدوا عهداً بقبر سيد الشهداء، ولبّى الوفد طلبتهم فانعطفوا بهم إلى كربلاء، وحينما انتهوا إليها استقبلن السيّدات قبر الإمام أبي عبد الله بالصراخ والعويل، وسالت الدموع منهن كل مسيل، وقضين ثلاثة أيام في كربلاء، ولم تهدأ لهن عبرة حتى بحّت أصواتهن وتفتّت قلوبهن، وخاف الإمام زين العابدين (عليه السّلام) على عمّته زينب وباقي العلويات من الهلاك، فأمرهن بالسفر إلى يثرب، فغادرن كربلاء بين صراخ وعويل (11).
إلى يثرب
واتّجه موكب أسارى أهل البيت إلى يثرب، وأخذ يجدّ في السير لا يلوي على شيء، وقد غامت عيون بنات رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بالدموع وهن يَنُحْنَ ويندبن قتلاهنّ ويذكرن بمزيد من اللوعة ما جرى عليهن من الذلّ، وكانت يثرب قبل قدوم السبايا إليها ترفل في ثياب الحزن على اُمّ المؤمنين السيّدة اًمّ سلمة زوجة النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، فقد توفّيت بعد قتل الحسين (عليه السّلام) بشهر كمداً وحزناً عليه (12).
نعي بشر للإمام
ولمّا وصل الإمام زين العابدين (عليه السّلام) بالقرب من المدينة نزل وضرب فسطاطه، وأنزل العلويات، وكان معه بشر بن حذلم فقال له:
(يا بِشْرُ، رَحِمَ اللهُ أَبَاكَ لَقَدْ كَانَ شَاعِراً، فَهَلْ تَقْدِرُ عَلى شَيءٍ مِنْهُ؟).
بلى يابن رسول الله.
(فَادْخُلِ الْمَدِينَةِ وَانَعَ أَبَا عَبْدِ اللهِ..).
وانطلق بشر إلى المدينة، فلمّا انتهى إلى الجامع النبوي رفع صوته مشفوعاً بالبكاء قائلاً:
يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ بِهَا قُتِلَ الْحُسَيْنُ فَأَدْمُعِي مِدْرَارُ
أَلْجِسْمُ مِنْهُ بِكَرْبَلاَءَ مُضَرَّجٌ وِالرَّأْسُ مِنْهُ عَلَى الْقَنَاةِ يُدَارُ
وهرعت الجماهير نحو الجامع النبوي وهي ما بين نائح وصائح تنتظر من بشر المزيد من الأنباء، وأحاطوا به قائلين:
ما النبأ؟
هذا عليّ بن الحسين مع عمّاته وأخواته قد حلّوا بساحتكم، وأنا رسوله إليكم أعرّفكم مكانه.
وعجّت الجماهير بالبكاء، ومضوا مسرعين لاستقبال آل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الذي بَرَّ بدينهم، وساد البكاء وارتفعت أصوات النساء بالعويل وأحطنَ بالعلويات، كما أحاط الرجال بالإمام زين العابدين (ع) وهم غارقون بالبكاء، فكان ذلك اليوم كاليوم الذي مات فيه رسول الله (صلّى الله عليه وآله).
خطاب الإمام زين العابدين
وخطب الإمام زين العابدين (عليه السّلام) خطبة مؤثرة تحدّث فيها عمّا جرى على آل البيت من القتل والتنكيل والسبي والذلّ، ولم يكن باستطاعة الإمام أن يقوم خطيباً، فقد أحاطت به الأمراض والآلام، فاستدعي له بكرسي فجلس عليه، ثم قال:
(الْحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمينَ، الرّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مالِكِ يَوْمِ الدَّينِ، بَارِئِ الْخَلاَئِقِِ أَجْمَعِينَ، الَّذِي بّعُدّ فَارتَفَعَ فِي السَّماوتِ الَعُلى، وَقَرُبَ فَشَهِدَ النَّجْوىّ، نَحْمَدُهُ عَلىَ عَظَائِمِ الأُمُورِ، وَفَجَائِعْ الدُّهُورِ، وَأَلَمِ الْفَوَاجعِ، وَمَضَاضَةِ اللَّوَاذِعِ، وَجَلِيلِ الرُّزْءِ، وَعَظِيمِ الْمَصَائِبِ الْفَاظِعةِ الْكَاظَّةِ الْفَادِحَةِ الْجَائِحَةِ.أَيُّهَا الْقَوْمُ، إِنَّ اللهَ تَعَالى وَلَهُ الْحَمْدُ ابْتَلاَنَا بِمَصَائِبَ جَلِيلَةٍ، وَثُلْمَةٍ فِي الإسْلامِ عَظِيمَةٍ: قُتِلَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السّلام) وَعِتْرَتُهُ، وَسُبِيَ نِسَاؤُهُ وَصِبْيَتُهُ، وَدَارُوا بِرَأْسِهِ فِي الْبُلْدَانِ مِنْ فَوقِ عَامِلِ السِّنَانِ، وَهذِهِ الرَّزِيَّةُ الَّتِي لاَ مِثْلُها رَزِيَّةُ.
أَيُّها النَّاسُ، فأَيُّ رِجالاَتٍ مِنْكُمْ يُسَرُّون بَعْدَ قَتْلِهِ؟! أَمْ أَيُّ فُؤادٍ لاَ يَحْزُنُ مِنْ أَجْلِهِ، أَمْ أَيَّةُ عَيْنٍ مِنْكُمْ تَحْبِسُ دَمْعَهَا وَتَضِنُّ عَنْ انْهِمَالِهَا؟!
فَلَقَدْ بَكَتِ السَّبْعُ الشِّدَأدُ لِقَتْلِهِ، وَبَكَتِ الْبِحَارُ بِأَمْوَاجِهَا، وَالسَّمواتُ بأرْكَانِهَا، وَالأرضُ بِأَرْجَائِها، وَالأشُجَارُ بِأَغْصَانِهَا، وَالْحِيتَانُ فِي لُجَجِ
الْبِحَارِ، وَالمَلاَئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَأَهلُ السَّمواتِ أَجْمَعُونَ.
أَيُّهَا النَّاسُ، أَيُّ قَلْبٍ لاَ يَنصَدِعُ لِقَتْلِهِ؟! أَمْ أَيُّ فُؤَادٍ لا َيَحنُّ إلَيْهِ؟! أَمْ أَيُّ سَمْعٍ يَسْمَعُ هَذِهِ الثُّلْمَةَ الَّتِي ثُلِمَتْ فِي الإِسْلاَمِ وَلاَ يصَمُّ؟!
أَيُّهَا النَّاسُ، أَصْبَحْنَا مَطْرُودِينَ مُشَرَّدِينَ مَذُودينَ شَاسِعِينَ عَنِ الأَمْصَارِ، كَأَنَّنَا أَوْلاَدُ تُرْكٍ أَوْ كابُلَ، مِنْ غَيْرِ جُرْمٍ اجْتَرَمْنَاهُ، وَ لاَ مَكْرُوهٍ ارْتَكَبْنَاهُ، وَلاَ ثُلْمَةٍ فِي الإِسلاَمِ ثَلَمْناهَا، مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّليِنَ، إِنْ هَذا إِلاَّ اخْتِلاَقُ.
وًاللهِ، لَوْ أَنَّ النَّبيَّ (صلّى الله عليه وآله) تَقَدَّمَ إِليْهِمْ فِي قِتَالنَا كَمَا تَقَدَّمَ إِليهِمْ فِي الْوصَايَةِ بِنَا لَمَا زَادُوا عَلىَ مَا فَعَلُوا بِنَا، فَإِنَّا للهِ وَإِنَّا إِليهِ رَاجِعُونَ، مِنْ مُصِيبَةٍ مَا أَعْظَمَهَا وَأَوْجَعَهَا وأفْجَعَهَا وَأَكَظَّهَا وَأَفْظَعَهَا وَأَفْدَحَهَا، فَعِنْدَ اللهِ نَحْتَسِبُ فِيمَا أَصابَنَا وَأَبْلَغَ بِنَا، إِنَّهُ عَزِيزُ ذُو انْتِقَامٍ).
وعرض الإمام في خطابه إلى المحن السود التي عانتها الاُسرة النبوية، وما جرى عليها من القتل وسبي النساء، وغير ذلك ممّا تتصدّع من هوله الجبال، وانبرى إلى الإمام صعصعة فألقى إليه معاذيره في عدم نصرته للحسين (ع) فقبل الإمام عذره وترحّم على أبيه.
ثمّ زحف الإمام مع عمّاته وأخواته وقد أحاطت به الجماهير وعلت أصواتهم بالبكاء والعويل، فقصدوا الجامع النبوي، ولمّا انتهوا إليه أخذت العقيلة بعضادتي باب الجامع، وأخذت تخاطب جدّها الرسول وتعزيه بمصاب ريحانته قائلة:
(يا جدّاه، إنّي ناعية إليك أخي الحسين) (13).
وأقامت العلويات المأتم على سيّد الشهداء، ولبسن السواد، وأخذن يندبنه بأقسى وأشجى ما تكون الندبة.
مكافأة الحرس
وقام الحرس بخدمات ورعاية إلى السيّدات، فالتفتت السيّدة فاطمة بنت الإمام أمير المؤمنين فقالت للعقيلة زينب: (لقد أحسن هذا الرجل إلينا فهل لك أن نصله بشيء؟).
فأجابتها العقيلة:
(والله ما معنا شيء نصله به إلاّ حلينا..).
(نعم، هو ما تقولين).
وأخرجن سوارين ودملجين، وبعثتا بهما إليه واعتذرتا له، وتأثّر الرجل من هذا الكرم الغامر وهو يعلم ما هن فيه من الضيق والشدة، فقال لهما باحترام:
لو كان الذي صنعت للدنيا لكان في هذا ما يرضيني، ولكن والله ما فعلته إلاّ لله ولقرابتكم من رسول الله (صلّى الله عليه وآله) (14).
حزن العقيلة
وخلدت عقيلة آل أبي طالب إلى البكاء على انقراض أهلها (15)، وكانت لا تجفّ لها عبرة، ولا تفتر عن البكاء، وكانت كلّما نظرت إلى ابن اخيها الإمام زين العابدين يزداد وجيبها وحزنها، وقد نخب الحزن قلبها الرقيق المعذّب، حتى صارت كأنّها صورة جثمان فارقته الحياة.إلى جنة المأوى وخلدت حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) – في يثرب – إلى البكاء والنحيب، وأخذت تراودها صباحاً ومساءً تلك الذكريات المروعة التي جرت على أخيها في صعيد كربلاء، وما عاناه من الكوارث القاصمة التي تذوب من هولها الجبال، فكانت دموعها تجري في كل لحظة على أخيها وأسرتها الذين حصدت رؤوسهم سيوف البغي، ومثّلت بأجسامهم العصابات المجرمة. لقد أخذت تلوح أمامها تلك المناظر الحزينة التي تعصف بالصبر حتى ضاقت بها الأرض، ولم تلبث أن ترفع صوتها عالياً مشفوعا بالألم والبكاء قائلة:
(واحسيناه).
(وا أخاه).
(وا عباساه).
(وا أهل بيتاه).
(وا مصيبتاه).
ثمّ تهوي إلى الأرض مغمىً عليها، فقد صارت شبحاً، وذوت كما ذوت اًمها زهرّاء الرسول من قبل، وكان أحبّ شيء لها مفارقة الدنيا والالتحاق بجدّها الرسول (صلّى الله عليه وآله) لتشكو إليه ما عانته من الرزايا والأسر والسبي، وما جرى على أخيها من القتل والتمثيل…
الهوامش:
ـــــــــــــــــ
1- حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) 414: 3.
2- تاريخ ابن الأثير 300: 3.
3- حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) 416: 3.
4- حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) 416: 3.
5- مقتل الحسين (عليه السّلام) – المقرّم: 417.
6- الصراط السوي في مناقب آل النبيّ (صلّى الله عليه وآله): 93.
7- مجمع الزوائد 199: 9. المعجم الكبير – الطبراني 140: 1.
8- تاريخ الطبري 357: 4.
9- مرآة الزمان في تواريخ الأعيان 101: 5.
10- شرح النهج 72: 4.
11- شرح النهج 72: 4.
12- حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) 422: 3.
13- مقتل الحسين (عليه السّلام) – المقرّم: 472.
14- تاريخ الطبري 366: 6. تاريخ ابن الأثير 300: 3.
15- حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) 428: 3.