وعانت عقائل الوحي ومخدَّرات النبوة والإمامة جميع ضروب المحن والبلاء أيام مكثهن في الكوفة، فقد عانين مرارة السجن وشماتة الأعداء، وذلّ الأسر، وبعدما صدرت الأوامر من دمشق بحملهن إلى يزيد أمر ابن مرجانة بتسيير رؤوس أبناء النبيّ (صلّى الله عليه وآله) وأصحابهم إلى الشام لتعرض على الشاميّين، كما عرضت على الكوفيّين حتى تمتلأ قلوب الناس فزعاً وخوفاً وتظهر مقدرة الأُمويّين، وغلبتهم على آل الرسول.
وقد سيّرت رؤوس العترة الطاهرة مع الأثيم زَحْر بن قيس الجعفي، كما سيّرت العائلة النبوية مع محفِّر بن ثعلبة من عائدة قريش، وشمر بن ذي الجوشن، وقد أوثقت بالحبال، وأركبت على أقتاب الجمال، وهن بحالة تقشعر منها ومن ذكرها الأبدان وترتعد لها فرائص كل إنسان (1).
وسارت قافلة الأسرى لا تلوي على شيء حتى انتهت إلى القرب من دمشق، فأُقيمت هناك حتى تتزيّن البلد بمظهر الزهو والأفراح، ومن الجدير بالذكر أنّ مخدّرات النبوة وباقي الأسرى قد التزموا جانب الصمت فلم يطلبوا أي شيء من أُولئك الأنذال الموكّلين بهم، وذلك لعلم العلويات بعدم الاستجابة لأي شيء من مطالبهن.
تزيين الشام
وأمرت حكومة دمشق الدوائر الرسمية وشبه الرسمية بإظهار الزينة والفرح للنصر الذي أحرزته بقتل أبناء النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، ووصف بعض المؤرخين تلك الزينة بقوله:
ولمّا بلغوا – أي أسارى أهل البيت – ما دون دمشق بأربعة فراسخ استقبلهم أهل الشام وهم ينثرون النثار فرحاً وسروراً حتى بلغوا بهم قريب البلد، فأوقفوهم عن الدخول ثلاثة أيام وحبسوهم هناك، حتى تتوفّر زينة الشام وتزويقها بالحليّ والحلل والحرير والديباج والفضة والذهب وأنواع الجواهر، على صفة لم يَرَ الراؤون مثلها لا قبل ذلك اليوم ولا بعده، ثمّ خرج الرجال والنساء، والأصاغر والأكابر، والوزراء والأمراء، واليهود والمجوس والنصارى وسائر الملل، إلى التفرّج ومعهم الطبول والدفوف والأبواق والمزامير، وسائر آلات اللهو والطرب، وقد كحّلوا العيون، وخضبوا الأيدي، ولبسوا أفخر الملابس، وتزيّنوا بأحسن الزينة، ولم ير الراؤون أشدّ احتفالاً ولا أكثر اجتماعاً منه، حتى كأن الناس كلّهم حشروا جميعاً في صعيد دمشق (2).
لقد أبدى ذلك المجتمع الذي تربّى على بغض أهل البيت جميع ألوان الفرح والسرور بإبادة العترة الطاهرة وسبي حرائر النبوة.
وروى سهل بن سعد الساعدي ما رآه من استبشار الناس بقتل الحسين (ع)، يقول: خرجت إلى بيت المقدس حتى توسّطت الشام، فإذا أنا بمدينة مطردة الأنهار كثيرة الأشجار، قد علّقت عليها الحجب والديباج، والناس فرحون مستبشرون، وعندهم نساء يلعبن بالدفوف والطبول، فقلت في نفسي: إنّ لأهل الشام عيداً لا نعرفه، فرأيت قوماً يتحدّثون فقلت لهم:
ألكم بالشام عيد لا نعرفه؟
نراك يا شيخ غريباً؟
أنا سهل بن سعد قد رأيت رسول الله (ص).
يا سهل، ما أعجبك أن السماء لا تمطر دماً، والأرض لا تنخسف بأهلها.
وما ذاك؟
هذا رأس الحسين يُهدي من أرض العراق.
واعجباً، يهدى رأس الحسين والناس يفرحون! من أيّ باب يدخل؟
وأشاروا إلى باب الساعات، فأسرع سهل إليها، وبينما هو واقف وإذا بالرايات يتبع بعضها بعضاً، وإذا بفارس بيده لواء منزوع السنان، وعليه رأس من أشبه الناس وجهاً برسول الله (صلّى الله عليه وآله) وهو رأس أبي الأحرار، وخلفه السبايا محمولة على جمال بغير وطاء، وبادر سهل إلى إحدى السيّدات فسألها: من أنت؟
(أنا سكينة بنت الحسين).
ألك حاجة؟ فأنا سهل صاحب جدّك رسول الله (ص).
(قل لصاحب هذا الرأس أن يقدّمه أمامنا حتى يشتغل الناس بالنظر إليه، ولا ينظرون إلى حرم رسول الله (صلّى الله عليه وآله)).
وأسرع سهل إلى حامل الرأس فأعطاه أربعمائة درهم فباعد الرأس عن النساء (3).
الشامي مع الإمام زين العابدين (ع)
وانبرى شيخ هرم يتوكّأ على عصاه ليمتّع نظره بالسبايا، فدنا من الإمام زين العابدين فرفع عقيرته قائلاً:
الحمد لله الذي أهلككم وأمكن الأمير منكم.
وبصر به الإمام (ع) فرآه مخدوعاً قد ضلّلته الدعاية الاُموية فقال له:
(يا شيخ، أقرأت القرآن؟).
فبهت الشيخ من أسير مكبول، فقال له بدهشة: بلى.
(أقرأت قوله تعالى: (قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى)، وقوله تعالى: (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ)، وقوله تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِن شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُربى)؟).
وبهر الشيخ وتهافت فقال:
نعم، قرأت ذلك.
فقال له الإمام: (نحن والله القربى في هذه الآيات.. يا شيخ، أقرأت قوله تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ أَهْلَ الْبَيتِ وَيُطَهَّرَكُم تطْهِيراً)؟).
قال: بلى.
(نحن أهل البيت الذين خصّهم الله بالتطهير).
ولمّا سمع الشيخ ذلك من الإمام ذهبت نفسه حسرات على ما فرّط في أمر نفسه، وتلجلج وقال للإمام بنبرات مرتعشة:
بالله عليكم أنتم هم؟
(وحق جدّنا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إنّا لنحن هم من غير شكّ..).
وودّ الشيخ أنّ الأرض قد وارته ولم يجابه الإمام بتلك الكلمات القاسية، وألقى بنفسه على الإمام وهو يوسع يديه تقبيلاً، ودموعه تجري على سحنات وجهه قائلاً:
أبرأ إلى الله ممّن قتلكم.
وطلب من الإمام أن يمنحه العفو والرضا فعفا الإمام عنه (4).
سرور يزيد
وغمرت يزيد موجات من الفرح حينما جيء له بسبايا أهل البيت، وكان مطلاً على منظر في جيرون، فلمّا نظر إلى الرؤوس والسبايا قال:
لمّا بَدَتْ تلك الحمولُ وأشرقت تلك الرؤوس على شفا جيرون
نعب الغرابُ فقلت: قل أو لا تقل
فقد اقتضيت من الرسول ديوني (5)
لقد أخذ ابن هند ثأره من ابن فاتح مكة ومحطم أوثان قريش، فقد أباد العترة الطاهرة وسبى ذراريها تشفّياً وانتقاماً من الرسول الذي قتل أعلام الاُمويّين.
رأس الإمام عند يزيد
وحمل الخبيث الأبرص شمر بن ذي الجوشن ومحفِّر بن ثعلبة العائدي رأس ريحانة رسول الله وسيّد شباب أهل الجنة هدية إلى الفاجر يزيد بن معاوية، فسرّ بذلك سروراً بالغاً، فقد استوفى ثأره وديون الاُمويّين من ابن رسول الله، وقد أذن للناس إذناً عاماً ليظهر لهم قدرته وقهره لآل النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، وازدحم الأوباش والأنذال من أهل الشام على البلاط الاُموي، وهم يعلنون فرحتهم الكبرى، ويهنّئون يزيد بهذا النصر الكاذب (6). وقد وضع الرأس الشريف بين يدي سليل الخيانة، فجعل ينكثه بمخصرته، ويقرع ثناياه اللتين كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يترشفهما، وجعل يقول:
(لقد لقيت بغيك يا حسين) (7).
ثمّ التفت إلى عملائه وأذنابه فقال لهم: (ما كنت أظنّ أباعبد الله قد بلغ هذا السنّ، وإذا لحيته ورأسه قد نصلا من الخضاب الأسود) (8).
وتأمل في وجه الإمام (عليه السّلام) فغمرته هيبته وراح يقول:
(ما رأيت مثل هذا الوجه حسناً قطّ) (9).
أجل إنّه كوجه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الذي تحنو له الوجوه والرقاب، والذي يشعّ بروح الإيمان، وراح ابن معاوية يوسع ثغر الإمام بالضرب وهو يقول: إنّ هذا وإيّانا كما قال الحصين بن الحمام:
أبى قومنا إن ينصفونا فانصفت
قواضب في إيماننا تقطر الدما
يُفلِّقْنَ هاماً من رجال أعزَّة علينا وهم كانوا أعقَّ وأظلما
ولم يتم الخبيث كلامه حتى أنكر عليه أبو برزة الأسلمي فقال له: أتنكت بقضيبك في ثغر الحسين، أما لقد أخذ قضيبك في ثغره مأخذاً لربّما رأيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يرشفه، أما إنّك يا يزيد تجيء يوم القيامة وابن زياد شفيعك ويجيء هذا ومحمّد (صلّى الله عليه وآله) شفيعه).
ثم قام منصرفاً عنه (10).
السبايا في مجلس يزيد
وأوقفت مخدرات الرسالة بين يدي يزيد، فالتفت إليه الإمام زين العابدين (عليه السّلام) فقال له:
(ما ظَنُّكَ بِرَسُولِ اللهِ (صلّى الله عليه وآله) لَوْ رَآنَا عَلى هذِهِ الصِّفَةِ؟).
فتأثّر يزيد، ولم يبق أحد في مجلسه إلاّ بكى، وكان منظر العلويات مثيراً للعواطف، فقال يزيد:
قبّح الله ابن مرجانة لو كان بينكم وبينه قرابة لما فعل بكم هذا.
والحقّ أنَّ ابن مرجانة لم يصنع بالسيّدات العلويات بمثل هذه الأعمال إلاّ بأمر يزيد وإرضاءً لعواطفه ورغباته واستجابة لعواطف الأمويين الذين ما آمنوا بالإسلام وكانت نفوسهم مترعة بالحقد لرسول الله (صلّى الله عليه وآله).
والتفت الطاغية إلى الإمام زين العابدين فقال له:
إيه يا عليّ بن الحسين، أبوك الذي قطع رحمي وجهل حقي، ونازعني سلطاني، فصنع الله به ما رأيت.
فأجابه شبل الحسين (ع) بكل طمأنينة وهدوء بقوله تعالى:
((ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحبّ كلَّ مختالٍ فخورٍ)).
وثار الطاغية وقال للإمام:
(وما أصابكم من مصيبةٍ فبما كسبت أيديكم).
فردّ عليه الإمام (ع):
(هذا في حقّ مَنْ ظلم لا في حقِّ مَنْ ظُلِم..).
وزوى الإمام بوجهه عنه ولم يكلّمه استهانة به (11).
خطاب العقيلة
وأظهر الطاغية الآثم فرحته الكبرى بإبادته لعترة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فقد صفا له الملك، واستوسقت له الاُمور، وأخذ يهزّ أعطافه جذلانَ متمنّياً حضور القتلى من أهل بيته ببدر ليريهم كيف أخذ بثأرهم من النبيّ (صلّى الله عليه وآله) في ذرّيته، وراح يترنّم بأبيات ابن الزبعري قائلاً أمام الملأ بصوت يسمعه الجميع:
لَيْتَ أَشْيَاخِي بِبَدرٍ شهِدُوا جَزَعَ الْخَزْرَجِ مِنْ وَقْعِ الأَسَلْ
لأهلُّوا وَاستَهَلُّوا فِرَحاً ثُمَّ قَالُوا: يَا يَزِيدُ لاَ تُشَلْ
قَدْ قَتَلْنَا القَرْمَ مِنْ سَادَاتِهِمْ وَعَدَلْنَاهُ بِبَدْرٍ فَاعْتَدَلْ
لَعِبَتْ هَاشِمُ بالْمُلْكِ فَلاَ خَبَرٌ جاءَ وَلاَ وَحْيٌ نَزَلْ
لَستُ مِنْ خِنْدِفَ إِنْ لَمْ أَنْتَقِمْ مِنْ بَنِي أَحْمَدَ ما كَانَ فَعَلْ
ولمّا سمعت العقيلة هذه الأبيات التي أظهر فيها التشفّي بقتل عترة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) انتقاماً منهم لقتلى بدر، وثبت كالأسد، فسحقت جبروته وطغيانه فكأنّها هي الحاكمة والمنتصرة والطاغية هو المخذول والمغلوب على أمره، وقد خطبت هذه الخطبة التي هي من متمّمات النهضة الحسينية، قالت (عليها السّلام):
(أَلْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلىَ مُحَمّدٍ وآلِهِ أَجْمَعِيَن، صَدَقَ اللهُ حيث يَقُولُ: (ثم كان عاقبة الذين أساؤوا السوأى أن كذبوا بأيات الله وكانوا بها يَسْتَهْزِؤُونَ) (12)، أَظَنَنْتَ – يَا يَزِيدُ – حَيْثُ أَخَذْتَ عَلَيْنَا
أَقْطَارَ الأَرْضِ وَآفَاقَ السَّمَاءِ فَأَصْبَحْنَا نُسَاقُ كَمَا تُسَاقُ الإِمَاءِ – أَنَّ بِنَا عَلَى اللهِ هَوَاناً، وَبِكَ عَلَيْهِ كَرَامَةً!! وَأَنَّ ذَلِكَ لِعَظِيمِ خَطَرِكَ عِنْدَهُ!! فَشَمَخْتَ بِأَنْفِكَ وَنَظَرْتَ في عَطْفِكَ، جَذْلانَ مَسْرُوراً، حِينَ رَأَيْتَ الدُّنْيَا لَكَ مُسْتَوْسِقَةً، وَالأُمُورَ مُتَّسِقَةً، وَحِينَ صَفَا لَكَ مُلْكُنَا وسُلْطَانُنَا، فَمَهلاً وأَنَسِيتَ قَوْلَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: (ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً ولهم عذاب مهين) (13).
أَمِنَ الْعَدْلِ يَا بْنَ الطُّلَقَاءِ تَخْدِيرُكَ حَرَائِرَكَ وَإمَاءَكَ وَسَوقُكَ بَنَاتِ رَسُولِ اللهِ سَبَايَا؟! قدْ هَتَكْتَ سُتورَهُنَّ، وَأَبْدَيْتَ وُجُوهَهُنَّ، تَحْدُو بِهِنَّ الأَعْدَاءُ مِنْ بَلَدِ إلى بلدٍ، وَيَسْتَشْرِفُهُنَّ أَهْلُ الْمَنَازِلِ وَالمَنَاهِلِ (14)، وَيَتَصَفَّحُ وُجُوهَهُنَّ الْقَرِيبُ وَالبَعِيدُ، وَالدَّنِيُّ وَالشَّرِيفُ، لَيْسَ مَعَهُنَّ مِنْ رِجَالهِنَّ وَلِيُّ، وَلاَ مِنْ حَمَاتِهنَّ حَمِيُّ.
وَكَيْفَ تُرْتَجىَ مُرَاقبَةُ مَنْ لَفَظَ فُوهُ أَكْبَادَ الأَزْكيَاءِ، وَنَبَتَ لَحْمُهُ بِدِمَاءِ الشُّهَدَاءِ؟!
وَكَيْفَ يَسْتَبطأُ فِي بُغْضِنَا أَهلَ الْبَيْتِ مَنْ نَظَرَ إِلَيْنَا بَالشَّنَفِ (15) والشَّنَآنِ وَالإِحَنِ وَالأَضْغَانِ؟!
ثُمَّ تَقُولُ غَيْرَ مُتَأَثِّمٍ وَلاَ مُسْتَعْظِمٍ:
لأَهَلُّوا وَاسْتَهَلُّوا فَرَحاً ثُمَّ قَالُوا: يَا يَزِيدُ لاَ تُشَلّ
مُنْتَحِياً عَلىَ ثَنَايَا أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السّلام) سَيِّدِ شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ تَنْكُتُهَا بِمِخْصَرَتِكَ.
وَكَيفَ لاَ تَقُولُ ذَلكَ، وَقَدْ نَكَأُتَ الْقُرْحَةَ، وَاسْتَأْصَلْتَ الشَّأْفَةَ، بإِرَاقَتِكَ دِمَاءَ ذُرَّيَّةِ مُحَمَّدٍ (صلّى الله عليه وآله) وَنُجُومِ الأرْضِ مِنْ آلِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟! وتَهْتِفُ بِأَشْيَاخِكَ، زَعَمْتَ أَنَّكَ تُنَادِيهِمْ!
فَلَتَرِدَنَّ وَشِيكاً مَوْرِدَهُمْ، وَلَتَوَدَّنَّ أَنَّكَ شُلِلْتَ وَبُكمْتَ وَلَمْ تَكُنْ قُلْتَ مَا قُلتَ وَفَعَلْتَ مَا فَعَلْتَ.
أَللَّهُمَّ خُذْ بِحَقِّنَا، وَانتَقِمْ مِمَّنْ ظَلَمَنَا، وَاحْلُلْ غَضَبَكَ بِمَنْ سَفَكَ دِمَاءَنَا وَقَتَلَ حُمَاتَنَا.
فَوَاللهِ مَا فَرَيْتَ إِلاَّ جِلْدَكَ، وَلا حَزَزْتَ إِلاَّ لَحْمَكَ، وَلَتَرِدَنَّ عَلى رَسُولِ اللهِ (صلّى الله عليه وآله) بِمَا تَحَمَّلْتَ مِنْ سَفْكِ دِمَاءِ ذُرّيَّتِهِ، وَانْتَهكْتَ مِنْ حُرْمَتِهِ فِي عِتْرَتِهِ وَلُحْمَتِهِ، وَحَيثُ يَجْمَعُ اللهُ شَمْلَهُمْ وَيَلُمُّ شَعْثَهُمْ وَيَأْخُذُ بِحَقِّهِمْ (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون) (16).
وَحَسْبُكَ بِاللهِ حَاكِماً، وَبِمُحَمَّدٍ (صلّى الله عليه وآله) خَصِيماً، وَبجَبرَئيلَ ظَهيراً، وَسَيَعْلَمُ مَنْ سَوَّلَ لَكَ وَمَكَّنَكَ مِنْ رِقَابِ الْمُسْلِمِينَ، بِئْسَ للِظَّالِمِينَ بَدَلاً وَأَيُّكُمُ شَرٌّ مَكَاناً وأَضْعَفُ جُنْداً.
وَلَئِنْ جَرَّتْ عَلَيَّ الدَّوَاهِي مُخَاطَبَتَكَ، إِنِّي لأَسْتَصْغِرُ قَدْرَكَ، وَأَسْتَعْظِمُ تَقْرِيعَكَ، وَأَسْتَكْثِرُ تَوْبِيخَكَ، لَكِنِ الْعُيُونُ عَبْرىَ، وَالصُّدَورُ حَرّىَ.
أَلاَ فَالعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبِ لِقَتْلِ حِزْبِ اللهِ النُّجبَاءِ بِحِزْبِ الشَّيْطَانِ الطُّلَقَاءِ، فَهَذِهِ الأَيْدِي تَنْطِفُ (17).مِنْ دِمَائِنَا، وَالأَفْوَاهُ تَتَحَلَّبُ مِنْ لُحُومِنَا، وَتِلكَ الْجُثَثُ الطَّوَاهِرُ الزَّوَاكِي تَنْتَابُهَا الْعَوَاسِلُ (18). وَتَعْفِرُهَا أُمَّهَاتُ الْفَرَاعِلِ (19)، وَلَئِنِ اتَّخَذْتَنَا مَغْنَماً لَتَجِدُنَا وَشِيكاً مُغْرَماً، حِينَ لاَ تَجِدُ إِلاَّ مَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ، وَمَا ربُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ، فَإلَى اللهِ الْمُشْتَكىَ، وَعَلَيْهِ الْمُعَوَّلُ.
فَكِدْ كَيْدَكَ، وَاسْعَ سَعْيَكَ، ونَاصِبْ جَهْدَكَ، فَوَاللهِ لاَ تَمْحُو ذِكْرَنَا، ولاَ تُمِيتُ وَحْيَنَا، وَلاَ تُدْركُ أَمَدَنَا، وَلاَ تَرْحَضُ عَنْكَ عَارَهَا.
وَهَلْ رَأْيُكَ إِلاَّ فَنَد؟ وَأَيَّامُكَ إِلاَ عَدَد، وَجَمْعُكَ إِلابَدَد، يَوْمَ يُنَادِي الْمُنَادي: أَلاَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ.
فَالْحَمْدُ للهِ الَّذِي خَتَمَ لأَوَّلِنَا بِالسَّعَادةَ وَالمَغْفِرةِ، وَلآخِرنَا بِالشَّهَادَةِ وِالرَّحْمَةِ.
وَنَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُكْمِلَ لَهُمُ الثَّوَابَ، وَيُوجِبَ لَهُمُ الْمَزِيدَ، وَيُحْسِنَ عَلَيْنَا الْخِلافَةَ، إِنَّهُ رَحِيمُ وَدُودُ، وَحَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيل (20).
وهذا الخطاب من متمّمات النهضة الحسينية، ومن روائع الخطب الثورية في الإسلام، فقد دمّرت فيه عقيلة بني هاشم وفخر النساء جبروت الاُموي الظالم يزيد، وألحقت به وبمن مكّنه من رقاب المسلمين العار والخزي، وعرّفته عظمة الأُُسرة النبوية التي لا تنحني جباهها أمام الطغاة والظالمين، وعلّق الإمام الشيخ محمّد حسين آل كاشف الغطاء على هذا الخطاب بقوله:
أتستطيع ريشة أعظم مصوّر، وأبدع ممثل أن يمثّل لك حال يزيد وشموخه بأنفه، وزهوه بعطفه وسروره وجذله باتّساق الاُمور، وانتظام الملك ولذّة الفتح والظفر والتشفّي والانتقام بأحسن من ذلك التصوير والتمثيل، وهل في القدرة والإمكان لأحد أن يدفع خصمه بالحجّة والبيان والتقريع والتأنيب، ويبلغ ما بلغته سلام الله عليها بتلك الكلمات، وهي على الحال الذي عرفت، ثمّ لم تقتنع منه بذلك، حتى أرادت أن تمثّل له وللحاضرين عنده ذلّة الباطل، وعزّة الحق وعدم الإكتراث واللامبالاة بالقوة والسلطة والهيبة والرهبة، أرادت أن تعرّفه خسّة طبعه، وضعة مقداره، وشناعة فعله، ولؤم فرعه وأصله (21).
ويقول المرحوم الفكيكي:
تأمّل معي في هذه الخطبة النارية كيف جمعت بين فنون البلاغة، وأساليب الفصاحة، وبراعة البيان، وبين معاني الحماسة، وقوة الاحتجاج، وحجّة المعارضة، والدفاع في سبيل الحرية والحقّ والعقيدة، بصراحة هي أنفذ من السيوف إلى أعماق القلوب، وأحدّ من وقع الأسنة في الحشا، والمهج في مواطن القتال، ومجالات النزال، وكان الوثوب على أنياب الأفاعي، وركوب أطراف الرماح أهون على يزيد من سماع هذا الاحتجاج الصارخ الذي صرخت به ربيبة المجد والشرف في وجوه طواغيت بني اُميّة وفراعنتهم في منازل عزّهم ومجالس دولتهم الهرقلية والارستقراطية الكريهة، ثمّ إنّ هذه الخطبة التأريخية القاصعة لا تزال تنطق ببطولات الحوراء الخالدة وجرأتها النادرة، وقد احتوت النفس القوية الحساسة الشاعرة بالمثالية الأخلاقية الرفيعة السامية، وسيبقى هذا الأدب الحيّ صارخاً في وجوه الطغاة الظالمين على مدى الدهر وتعاقب الأجيال وفي كل ذكرى لواقعة الطفّ الدامية المفجعة (22).
محتويات الخطاب
كان هذا الخطاب العظيم امتداداً لثورة كربلاء، وتجسيداً رائعاً لقيمها الكريمة وأهدافها السامية، وقد حفل بمايلي:
أوّلاً: إنّها دلّلت على غرور الطاغية وطيشه، فقد حسب أنّه هو المنتصر بما يملك من القوى العسكرية التي ملأت البيداء وسدّت أفاق السماء إلاّ أنّه انتصار مؤقّت، ومن طيشه أنّه حسب أنّ ما أحرزه من الانتصار كان لكرامته عند الله تعالى وهوان لأهل البيت، ولم يعلم أنّ الله إنّما يملي للكافرين في الدنيا من النعم ليزدادوا إثماً ولهم في الآخرة عذاب أليم.
ثانياً: إنّها نعت عليه سبيه لعقائل الوحي، فلم يرعَ فيهم قرابتهم لرسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وهو الذي منَّ عليهم يوم فتح مكة، فكان أبوه وجدّه من الطلقاء، فلم يشكر للنبيّ (ص) هذه اليد، وكافئه بأسوء ما تكون المكافئة.
ثالثاً: إنّ ما اقترفه الطاغية من سفكه لدماء العترة الطاهرة، فإنّه مدفوع بذلك بحكم نشأته وماورثه، فجدّته هند هي التي لاكت كبد سيّد الشهداء حمزة، وجدّه أبو سفيان العدوّ الأوّل للإسلام، وأبوه معاوية الذي أراق دماء المسلمين وانتهك جميع ما حرمه الله، فاقتراف الجرائم من عناصره وطباعه التي فطر عليها.
رابعاً: إنّها أنكرت عليه ما تمثّل به من الشعر الذي تمنّى فيه حضور شيوخه الكفرة من الاُمويّين ليروا كيف أخذ بثأرهم من النبيّ (صلّى الله عليه وآله) بإبادته لأبنائه، إلاّ أنّه سوف يرد موردهم من الخلود في نار جهنم.
خامساً: إنّ الطاغية بسفكه لدماء العترة الطاهرة لم يسفك إلاّ دمه، ولم يفرِ إلاّ جلده، فإنّ تلك النفوس الزكية حيّة وخالدة، وقد تلفّعت بالكرامة، وبلغت قمّة الشرف، وإنّه هو الذي باء بالخزي والخسران.
سادساً: إنّها عرّضت بمَنْ مكّن الطاغية من رقاب المسلمين، فهو المسؤول عمّا اقترفه من الجرائم والموبقات، وقد قصدت سلام الله عليها مغزى بعيداً يفهمه كل من تأمّل فيه.
سابعاً: إنّها أظهرت سموّ مكانتها، وخطر شأنها، فقد كلّمت الطاغية بكلام الأمير والحاكم، فاستهانت به، واستصغرت قدره، وتعالت عن حواره، وترفّعت عن مخاطبته، ولم تحفل بسلطانه، لقد كانت العقيلة على ضعفها وما ألمّ بها من المصائب أعظم قوّة وأشدّ بأساً منه.
ثامناً: إنّها أشارت إلى أنّ يزيد مهما بذل من جهد لمحو ذكر أهل البيت (عليهم السّلام)، فإنّه لا يستطيع إلى ذلك سبيلاً لأنّهم مع الحقّ، والحقّ لابدّ أن ينتصر، وفعلاً فقد انتصر الإمام الحسين (ع)، وتحوّلت مأساته إلى مجد لا يبلغه أي إنسان كان، فأيّ نصر أحقّ بالبقاء وأجدر بالخلود من النصر الذي أحرزه الإمام عليه السّلام.
هذا قليل من كثير ممّا جاء في هذه الخطبة التي هي آية من آيات البلاغة والفصاحة، ومعجزة من معجزات البيان، وهي إحدى الضربات التي أدّت إلى انهيار الحكم الاُموي (23).
جواب يزيد
ولم يستطع الطاغية الجواب على خطاب العقيلة، فقد انهار كبرياؤه وغروره وتمثّل ببيت من الشعر وهو:
يَا صَيْحَةً تُحْمَدُ مِنْ صَوَائِحِ
مَا أَهْوَنَ الْمَوْتَ عَلَى النَّوَائِحِ
ولا توجد أيّة مناسبة بين ذلك الخطاب الثوري الذي أبرزت فيه عقيلة الوحي واقع يزيد وجرّدته من جميع القيم والمبادئ الإنسانية، وبين هذا البيت من الشعر الذي حكى أنّ الصيحة تحمد من الصَّوائح، وأنّ النوح يهون على النائحات، فأي ربط موضوعي بين الأمرين.
اضطراب الطاغية
وتلبّدت الأجواء السياسية على الطاغية، وحار في أمره فقد فضحته العقيلة بخطابها الخالد، وجرّدته من السلطة الشرعية، وأخذت الأوساط الشعبية في دمشق تتحدّاه وتنقم عليه جريمته النكراء بإبادته لعترة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فأخذ يلتمس له المعاذير، فقال لأهل الشام:
أتدرون من أين أتى ابن فاطمة؟ وما الحامل له على ما فعل؟ وما الذي أوقعه فيما وقع؟ لا.
يزعم أن أباه خير من أبي، واُمّه فاطمة بنت رسول الله خير من اُمّي، وأنّه خير منّي، وأحقّ بهذا الأمر، فأمّا قوله: أبوه خير من أبي، فقد حاجّ أبي أباه إلى الله عز وجلّ، وعلم الناس أيّهما حكم له، وأمّا قوله: اُمّه خير من اُمّي، فلعمري أنّ فاطمة بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، خير من اُمي، وأمّا قوله: جدّه خير من جدّي فلعمري ما أحد يؤمن بالله واليوم الآخر وهو يرى أنّ لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) فينا عدلاً، ولا ندّاً.. ولكنّه إنّما أتى من قلّة فقهه، ولم يقرأ قوله تعالى: (والله يؤتي ملكه من يشاء) (24).
لقد حسب الخبيث أنّ منطق الفضل عند الله تعالى إنّما هو الظفر بالملك والسلطان، فراح يبني تفوّقه على الإمام بذلك، ولم يعلم أنّ الله تعالى لا يرى للملك أي قيمة، فإنّه يهبه للبرّ والفاجرِ.
لقد تخبّط الطاغية، وراح يبني مجده الكاذب على تغلّبه وقهره لسبط رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وقد خاب فكره وضلّ سعيه، فقد انتصر الإمام في ثورته انتصاراً لم يحرزه أي فاتح على وجه الأرض، فها هي الدنيا تعجّ بذكره، وها هو حرمه يطوف به المسلمون كما يطوفون ببيت الله تعالى، وليس هناك ضريح على وجه الأرض أعزّ ولا أرفع من ضريح أبي الأحرار (ع)، فكان حقّاًهذا هو النصر والفتح.
العقيلة مع الشامي ويزيد
ونظر شخص من أهل الشام إلى السيّدة الزكية فاطمة بنت الإمام الحسين (ع) فقال ليزيد:
هب لي هذه الجارية لتكون خادمة عندي.
وقد ظنّ أنّها من الخوارج فيحق له أن تكون خادمة عنده، ولمّا سمعت العلوية ذلك، سرت الرعدة بأوصالها، وأخذت بثياب عمّتها مستجيرة بها، فانبرت العقيلة وصاحت بالرجل:
(كذبت ولؤمت، ما ذلك لك، ولا لأميرك..).
واستشاط الطاغية غضباً من استهانة العقيلة به وتحدّيها لشأنه، فقال لها: كذبت، إن ذلك لي، ولو شئت لفعلت.
فنهرته العقيلة ووجّهت له سهاماً من منطقها الفياض قائلة:
(كلاّ والله ما جعل الله لك ذلك، إلاّ أن تخرج من ملّتنا، وتدين بغير ديننا..) وفقد الطاغية إهابه، فقد أهانته أمام الطغمة من أهل الشام فصاح بالحوراء:
إيّاي تستقبلين بهذا، إنّما خرج من الدين أبوك وأخوك.
ولم تحفل العقيلة بسلطانه ولا بقدرته على البطش والانتقام، فردّت عليه بثقة:
(بدين الله ودين أبي وجدّي اهتديت أنت وأبوك إن كنت مسلماً..).
وأزاحت العقيلة بهذا الكلام الذي هو أشدّ من الصاعقة الستار الذي تستّر به الطاغية من أنّ الإمام الحسين وأهل بيته من الخوارج، فقد استبان لأهل الشام أنّهم ذرّية رسول الله، وأنّ يزيد كاذب بادّعائه.
وصاح الرجس الخبيث بالعقيلة:
كذبت يا عدوّة الله.
ولم تجد العقيلة جواباً تحسم به مهاترات الطاغية، غير أن قالت:
(أنت أمير مسلّط، تشتم ظلماً، وتقهر بسلطانك..).
وتهافت غضب الطاغية وأطرق برأسه إلى الأرض، فأعاد الشامي كلامه إلى يزيد طالباً منه أن تكون بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) خادمة عنده فصاح به يزيد:
وهب الله لك حتفاً قاضياً (25).
لقد احتفظت عقيلة الوحي بقواها الذاتية، وإرادتها الواعية الصلبة التي ورثتها من جدّها الرسول (صلّى الله عليه وآله)، فقابلت الطاغية بهذا الكلام المشرّف الذي حقّقت به أعظم الانتصار.
يقول بعض الكتّاب:
وقد حقّقت زينب سلام الله عليها – وهي في ضعفها واستكانتها – أوّل نصر حاسم على الطغاة وهم في سلطانهم وقوتهم، فقد أفحمته المرّة بعد المرّة، وقد أظهرت للملأ جهله، كما كشفت عن قلّة فقهه في شؤون الدين، فإنّ نساء المسلمين لا يصحّ مطلقاً اعتبارهن سبايا، ومعاملتهن معاملة السبي في الحروب (26).
وأكبر الظنّ أن كلام الشامي كان فاتحة انتقاد ليزيد، وبداية لتسرّب الوعي عند الشاميّين، وآية ذلك أنّه لم يكن الشامي بليداً إلى هذا الحدّ، فقد كان يكفيه ردّ الحوراء عليه وعلى يزيد، ومقابلتها ليزيد بالعنف الذي أخرجته من ربقة الإسلام إن استجاب لطلب الشامي، وهذا ممّا يشعر أنّ طلبه كان مقصوداً لأجل فضح يزيد.
حوار الإمام السجّاد عليه السّلام مع يزيد:
• قال الشيخ المفيد رحمه الله:
قال يزيد لعليّ بن الحسين: يا ابنَ حسين، أبوك قَطَع رحمي وجَهِل حقّي ونازعني سلطاني، فصَنَع اللهُ به ما قد رأيت! فقال عليّ بن الحسين (ع): ما أصابَ من مصيبةٍ في الأرضِ ولا في أنفسِكُم إلاّ في كتابٍ مِن قَبْلِ أن نَبرأَها، إنّ ذلكَ علَى اللهِ يَسيرٌ.
فقال يزيد لابنه خالد: أُردُدْ عليه. فلم يَدرِ خالد ما يردّ عليه، فقال له يزيد: قل: ” ما أصابكم مِن مصيبةٍ فبما كسبَتْ أيديكم ويَعفو عن كثير “!
فقال عليّ بن الحسين بعد ذلك: يا ابن معاويةَ وهندٍ وصخر! لم تَزَل النبوّة والإمرة لآبائي وأجدادي مِن قبل أن تُولَد، ولقد كان جدّي عليُّ بن أبي طالب في يوم بدرٍ وأُحد والأحزاب وفي يده راية رسول الله صلّى الله عليه وآله، وأبوك وجدّك في أيديهما رايات الكفّار.
ثمّ قال عليّ بن الحسين: وَيْلَكَ يا يزيد! إنّك لو تدري ماذا صَنَعت! وما الذي ارتكبتَ مِن أبي وأهل بيتي وأخي وعمومتي! إذاً لَهربتَ في الجبال، وافترشت الرماد، ودَعَوت بالويل والثبور، أن يكون رأس أبي ” الحسين ابنِ فاطمةَ وعليٍّ ” منصوباً على باب مدينتكم، وهو وديعة رسول الله فيكم! فآبشِرْ بالخزي والندامة غداً إذا جُمع الناسُ ليوم القيامة!
خطبة الإمام السجّاد عليه السّلام في مجلس يزيد
قال الإمام عليّ بن الحسين عليه السّلام: يا يزيد، أتأذنْ لي أن أصعد هذه الأعواد (أي المنبر) فأتكلّم بكلماتٍ للهِ فيهنّ رضىً ولهؤلاء الجلساء فيهن أجرٌ وثواب؟ فأبى يزيد عليه ذلك، فقال الناس: إئذَنْ له فَلْيصعد المنبر؛ فلعلّنا نسمع منه شيئاً! فقال يزيد: إن صَعِد لم ينزل إلاّ بفضيحتي وبفضيحة آل أبي سفيان! فقيل له: وما قَدْرُ ما يُحسِن هذا؟! فقال يزيد: إنّه مِن أهل بيتٍ قد زُقُّوا العلمَ زقّاً.
قال الراوي: فما يَزالون به حتّى أذِن له، فصعد المنبر، فحَمِد الله وأثنى عليه، ثمّ خطب خطبةً أبكى منها العيون، وأوجل منها القلوب.. ثمّ قال:
أيُّها الناس، أُعطينا ستّاً وفُضِّلْنا بسبع، أُعطينا: العلمَ والحلم والسماحة والفصاحة والشجاعة والمحبّة في قلوب المؤمنين. وفُضِّلْنا: بأنّ منّا النبيَّ المختار محمّداً، ومنّا الصدِّيق (أي أمير المؤمنين عليّ)، ومنّا الطيّار (أي جعفر)، ومنّا أسد الله وأسد رسوله (أي حمزة)، ومنّا سبطا هذه الأمّة (أي الحسن والحسين صلوات الله عليهم أجمعين). مَن عرفني فقد عرفني، ومَن لم يعرفني أنبأتُه بحسبي ونسبي.
أيًّها الناس، أنا ابنُ مكّةَ ومِنى، أنا ابنُ زمزمَ والصَّفا، أنا ابنُ مَن حَملَ الركن بأطراف الرِّدا (أي أنا ابن النبيّ)، أنا ابن خير مَن ائتزر وارتدى، أنا ابن خير مَن انتعل واحتفى، أنا ابن خيرِ مَن طاف وسعى، أنا ابنُ خير مَن حجّ ولبّى، أنا ابنُ مَن حُمِل على البُراق في الهواء، أنا ابن مَن أُسرِيَ به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، أنا ابنُ مَن بلَغَ به جبرئيلُ إلى سِدرة المنتهى، أنا ابنُ مَن دَنا فتدلّى، فكان قابَ قوسَينِ أو أدنى، أنا ابنُ مَن صلّى بملائكة السماء، أنا ابن مَن أوحى إليه الجليلُ ما أوحى، أنا ابن محمّدٍ المصطفى.
أنا ابنُ عليٍّ المرتضى، أنا ابن مَن ضرَبَ خَراطيمَ الخَلْق حتّى قالوا: لا إله إلاّ الله، أنا ابن مَن ضرب بين يدَي رسول اللهِ بسيفَين، وطعن برمحَين، وهاجَرَ الهجرتين، وبايع البيعتين، وقاتَلَ ببدرٍ وحُنَين، ولم يكفر بالله طَرْفةَ عين، أنا ابنُ صالحِ المؤمنين (أي عليّ بن أبي طالب)، ووارثِ النبيّين، وقامعِ الملحدين، ويعسوب المسلمين، ونور المجاهدين، وزينِ العابدين، وتاجِ البكّائين، وأصبرِ الصابرين، وأفضل القائمين مِن آل ياسينَ رسول ربِّ العالمين.
أنا ابن المؤيَّد بجبرئيل، المنصور بميكائيل، أنا ابن المحامي عن حرم المسلمين، وقاتلِ المارقين والناكثين والقاسطين، والمجاهدِ أعداءه الناصبين، وأفخرِ مَن مشى مِن قريشٍ أجمعين، وأوّلِ مَن أجاب واستجاب لله ولرسوله من المؤمنين، وأوّلِ السابقين، وقاصمِ المعتدين، ومُبيدِ المشركين، وسهمٍ مِن مَرامي الله على المنافقين، ولسانِ حكمةِ العابدين، وناصرِ دِين الله، ووليِّ أمر الله، وبستانِ حكمة الله، وعيبة علمه. سَمحٌ سخيٌّ بهيّ، بُهلولٌ زكيّ أبطحيّ، رضيٌّ مِقدامٌ همام، صابرٌ صوّام، مهذَّبٌ قَوّام، قاطعُ الأصلاب، ومُفرِّق الأحزاب، أربطُهم عِناناً، وأثبتُهم جَناناً، وأمضاهم عزيمة، وأشدّهم شكيمة، أسدٌ باسل، يَطحنُهم في الحروب إذا ازدلفت الأسنّة، وقَرُبت الأعنّة، طَحْنَ الرَّحى، ويذروهم فيها ذَرْوَ الريح الهشيم، ليثُ الحجاز، مكّيّ مدنيّ، خَيفيٌّ عَقَبيّ، بَدريٌّ أُحُديّ، شَجَريٌّ مُهاجريّ، مِن العرب سيّدُها، ومِن الوغى ليثُها، وارثُ المشعرَين، وأبو السبطَين، الحسن والحسين، ذاك جَدّي عليُّ بن أبي طالب.
ثمّ قال: أنا ابن فاطمةَ الزهراء، أنا ابن سيّدة النساء.. فلم يزل يقول: أنا أنا، حتّى ضجّ الناس بالبكاء والنحيب، وخشِيَ يزيدُ لعنه الله أن ينقلب الأمر عليه، فأمر المؤذّنَ فقطع عليه الكلام. فلمّا قال المؤذّن: اللهُ أكبر، الله أكبر.. قال عليّ: لا شيءَ أكبر من الله. فلمّا قال: أشهد أن لا إله إلاّ الله.. قال عليّ بن الحسين: شَهِد بها شَعري وبَشَري، ولحمي ودمي. فلمّا قال المؤذّن: أشهد أنّ محمّداً رسول الله.. التفتَ مِن فوق المنبر إلى يزيد فقال: محمّدٌ هذا جَدّي أم جَدُّك يا زيد؟! فإن زعمتَ أنّه جَدُّك فقد كذبتَ وكفرت، وإن زعمتَ أنّه جَدّي فلِمَ قتلتَ عترته؟!
النياحة عند الحسين
ووعد يزيد لعنه الله الامام السجاد في ذلك اليوم – بعد أن رأى الأمر على وشك أن ينقلب عليه – أنه يقضي له ثلاث حاجات
فطلبن عقائل الوحي من الطاغية أن يفرد لهن بيتاً ليقمن فيه مأتماً على سيّد الشهداء، فقد نخر الحزن قلوبهن، فلم يكن بالمستطاع أن يبدين ما ألمّ بهنّ من عظيم الأسى خوفاً من الجلاوزة الجفاة الذين جهدوا على منعهن من البكاء على أبي عبد الله، يقول الإمام زين العابدين: كلّما دمعت عين واحد منّا قرعوا رأسه بالرمح، واستجاب يزيد لذلك، فأفرد لهن بيتاّ، فلم تبق هاشمية ولا قرشية إلا لبسن السواد حزناً على الحسين، وخلدن بنات الرسالة إلى النياحة سبعة أيام، وهنّ يندبن سيّد الشهداء (عليه السّلام) بأقسى ما تكون الندبة، وينحن على الكواكب من نجم آل عبد المطلب، وقد اهتزت الأرض من كثرة نياحهن وبكائهن (27).
الهوامش:
ـــــــــــــــــ
1- تحفة الأنام في مختصر الإسلام: 84.
2- حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) 369: 3.
3- حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) 370: 3.
4- حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) 371: 3.
5- مقتل الحسين (عليه السّلام) – المقرّم: 437.
6- البداية والنهاية 198: 8.
7- حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) 374: 3.
8- تاريخ الإسلام – الذهبي 351: 2.
9- تاريخ القضاعي: 70.
10- تاريخ ابن الأثير 398: 3.
11- الإرشاد: 276.
12- سورة الروم: الآية 10.
13- سورة آل عِمران: الآية 178.
14- المناهل: جمع منهل، وهو موضع الشرب من العيون، والمراد من يسكن فيها.
15- الشنف: البغض والعداء.
16- سورة آل عمران: الآية 163.
17- تنطف: أي تستوفي من دمائنا.
18- العواسل: جمع عاسل، وهو الذئب.
19- الفراعل: جمع فرعل، وهو ولد الضبع.
20- أعلام النساء 504: 2. بلاغات النساء: 21. حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) 378: 3-380.
21- السياسة الحسينية: 30.
22- حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) 381: 3.
23- حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) 382: 3-383.
24- تاريخ الطبري 226: 6. البقرة: 247.
25- تاريخ الطبري 265: 6.
26- حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) 390: 3.
27- حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) 392: 3.