شاء الله أن يراهنّ سبايا
نقل لنا المؤرّخون ورواة السيرة الحسينيّة جواباً للإمام الحسين بن علي (عليه السّلام) مع الصحابي عبد الله بن عباس (حبر الاُمّة) , بعد نقاش طويل عن أسباب الخروج , ولِمَ الخروج مع النساء والأطفال , فجاء الجواب ليكون ختاماً لهذا النقاش : (( شاء الله أن يراهنَّ سبايا )) .
وتدُلُنا النقاشات والمحاورات التي جرت مع الإمام الحسين (عليه السّلام) أنّ الاُمة الإسلاميّة قد دبّت فيها روح الاسترخاء واللامبالاة بما جرى ويجري للاُمّة مقابل روح الحسين (عليه السّلام) , روح الثورة والاستشهاد والتفاني ، وشعور بالهمّ الإسلامي ، والتفكّر في مصير الاُمة . هذا أوّلاً .
ثانياً : نرى أنّ الصحابة حاولوا تصوير الأمر ـ من خلال المحاورات والمناقشات ـ وكأنه نزاع شخصي , والأمر لا يعدو البيتين العلوي والاُموي ، ويؤدون دور الناصح تارة والمشفق تارة اُخرى ؛ لما سيؤول إليه الأمر إذا ما خرج الحسين (عليه السّلام) وأصرّ على مواصلة المشوار .
ثالثاً : إنّ الاُمّة الإسلاميّة وكبار الصحابة آنذاك لا تنظر إلى الحسين (عليه السّلام) كإمام وحارس للشريعة الإسلاميّة كما ننظر نحن أبناء المذهب الجعفري , وكأنّ الحديث الشريف الذي قاله الرسول الكريم (صلّى الله عليه وآله) : (( الحسن والحسين إمامان إن قاما وإن قعدا )) قد تمّ طمسه أو تناسته الاُمّة , وكأنّ الابتعاد عن مركز الخلافة بالنسبة لأهل البيت (عليهم السّلام) قد أصبح أمراً مسلّماً لديهم ، والخلافة لا ترتبط بمن يجسّد الرسالة الإسلاميّة , ومَن تسبق إليه البيعة فقد وكِل الأمر إليه ! أمّا الحسين (عليه السّلام) فقد قال قوله : (( مثلي لا يُبايع مثلَه )) .
وبعد هذه المقدمة نتساءل : هل أراد الله سبحانه وتعالى أن يراهنّ سبايا ؟
أو لنصوغ عبارة وسؤالاً بطريقة اُخرى عن الجواب المجمل للإمام الحسين (عليه السّلام) : ما الحكمة في الأمر ؟ ألا يكفي أن يُنحر الحسين وأولاده , وإخوته وصحبه (عليهم السّلام) لتُسبى النساءُ من أهل البيت وفيهن مَن لم يُرَ ظلُّها في حياة أبيها كزينب الكبرى اُخت الحسين (عليهما السّلام) ؟
وقبل الإجابة عن هذا التساؤل نعود للمحاورة , حيث لم ينقل لنا المؤرّخون أيّ جواب أو تعليق من ابن عباس , وسلّم بالأمر وكأنه فهم مراد الحسين (عليه السّلام) ، أو أنّه لم يجد ما يقوله بعد ذلك .
ولن ندخل في ما فكّر به ، ونكتفي بهذين الاحتمالين ؛ إمّا إنّه فهم مراد الحسين (عليه السّلام) , وإمّا إنّه لم يجد جواباً .
ولنعود لنتأمل في المقولة للإجابة على التساؤل , أو ما الحكمة , ولِمَ (( شاء الله أن يراهنّ سبايا )) ؟
ونحن كمؤمنين نعتقد أنّ الله (سبحانه وتعالى) له حكمة في كلِّ قضية وفي كلِّ حكم , والحسين (عليه السّلام) امتثل لهذا الأمر الإلهي . فالقضية إذاً ليست رغبة شخصية بقدر ما هو أمر إلهي ، والإمام الحسين (عليه السّلام) يمتثل لهذا الأمر .
ولم تحدثنا السيرة عن معارضة أو عن نقاش جرى بين الإمام الحسين (عليه السّلام) وبين النسوة ، وبينه وبين أزواج النساء ، وإنما كان تسليماً مطلقاً , ممّا يدلّ على أنّه ولي الأمر المفترض الطاعة والحارس الأمين للشريعة , على خلاف النظرة الاُخرى التي لا ترى فيه سوى إنّه حفيد النبي محمّد (صلّى الله عليه وآله) .
فالأمر لا يعني أنّ القضية هي رغبة للسبي فقط ، ولكن ما بعد السبي ، وتفاعلات السبي التي ستكون المحرّك للثورة والفصل الثاني لها ؛ لهذا سيستمر بسبب هذا السبي حتّى ما شاء الله (كد كيدك , واسعَ سعيك , فوالله لن تمحوَ ذكرنا …) .
واصطحاب النساء والأطفال ليست مغامرة أو نشوة القائد الذي لا يدرك عواقب هذا الأمر الخطير مع قوم لا يردعهم أيّ رادع , ولا يراعون حرمات الله : (( كونوا عُرباً كما تزعمون )) , فحتّى القيم العربية ليست لها مكان في تفكير هؤلاء الذين سيُجابههم الإمام الحسين وصحبه وأهل بيته (عليهم السّلام) . والله الذي أمر بهذا كفيل بحمايتهنّ وحفظهنّ حتّى يبلغ الله أمراً كان مفعولاً .
لقد استطاعت الأسيرات أن يطوّقن السجّانين بخطب جعلت منهم أسرى لا يستطعون فعل أيّ شيء مقابل ما قامت به السبايا . لقد تحوّل السبي إلى لعنات تصب فوق رؤوس الجلادين ، ولم يدر بخلد المعسكر الاُموي أن يتحول هذا السبي إلى سيف من نوع آخر يقلب كفّة الصراع ويحوّله إلى نصر سياسي .
لقد كان الفتح للسبايا اللاتي كلّما دخلن مجلساً لأحد الطغاة أو إلى مدينة مررن بها إلاّ وتمّ لهنّ نصراً , وانحنت لهنّ أعناق الرجال بمنطق عقيلتهن وقدوتهن زينب الكبرى (عليها السّلام) .
ولكننا اليوم لا نرى في مسيرة السبايا إلاّ دموع نساء يولولنَ على القتلى ، ويندبن حظهنّ بما جرى عليهنّ ، وكأنهنّ جئن إلى أرض المعركة دون إرادتهنّ , ونسينا الدور العظيم والقوة التي أظهرتها زينب (عليها السّلام) والنساء في أرض الطف ، وفي الكوفة ، وفي مجلس ابن زياد ، ومجلس يزيد ، وفي المدن التي مررن بها .
لنعش القوة والصبر الذي عاشته زينب (عليها السّلام) وبقية النسوة اللاتي (( شاء الله أن يراهنّ سبايا )) , فحقّقن ما لم يتحقق في أرض المعركة ، وتنتصر المبادئ والقيم , ولتعود إلى الاُمّة جذوة الإيمان ، ولتحيا فيهم روح الثورة والاستشهاد .
أمّا أن نستدرّ عطف المستمع ليذرف الدموع ؛ لننال بها بركة ومثوبة نتقرّب بها إلى الله (سبحانه وتعالى) فهو ليس كلّ المطلوب , فلا يكفي أن استدر عاطفة وأذرف دمعة مع ما لها من الأجر والثواب , وإنما أعيش ما أراده الإمام الحسين وصحبه وأهل بيته (عليهم السّلام) ؛ فقد تغسل الدموع ما تغسله ، ولنخطو الخطوة التالية لنكون مع الحسين (عليه السّلام) ، ولكي لا تسبى حرائر الحسين (عليه السّلام) مرة اُخرى .