ملحمة العدل الإلهي
التاريخ مدرسة يتعلم منها بنو البشر دروس وعبر لمن أراد أن يستقي من هذا المنبع الكبير ، ويستلهم منها ليخطّ طريقه في الخير أو الشر ، ويأخذ منها ما يرسم به طريقه ، وينتهج منها ليكون صالحاً أو طالحاً .
ولقد سطّر التاريخ ملاحم شتّى , بدءاً من نشوء الخليقة وحتّى يومنا هذا , وعلى مرّ العصور واختلاف الملل والأديان ، ولكنّ العاقل من ينتقي ما يخلده ويجعل عاقبته الخير والصلاح وحسن المقام .
ومن أروع الملاحم وأصدقها ملحمة الطفّ التي كان لها من المعاني والعبر والدروس التي أرهبت وهزّت عروش الظلم والتسلّط والعبودية على مدى القرون الماضية . وقد حاول الأباطرة بتيجانهم وأقلامهم وأفكارهم أن يغيّروا من عِبرها ، لكن عظم الدروس التي سطّرتها هذه الملحمة هيهات أن تتغير أو أن تمس بسوء ؛ لأنّ العدل والخير , والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يمكن أن يُبدل أو يدنّس .
ويا لعظم هذه الملحمة ! ليس لأنها سُطّرت بيد أحد أولياء الله وخيرة عباده ، بل لأنها ملحمةٌ تُغيّر الشر الذي خُلق مع بدء الخليقة ، وتدحض الباطل بكلِّ ألوانه وآفاته ، وترسم طريقاً لدولة الحق والعدل التي سنّها وأرسى قواعدها الخالق في رسالته السماوية التي أنزلها على رسوله وحبيبه محمّد (صلّى الله عليه وآله) .
إنّ الحسين (عليه السّلام) عندما خرج بأهله وأصحابه الخلّص من المدينة متوجّهاً إلى الكوفة ، لم يكن خروجه لغايةٍ في نفسه ، أو لعصبيةٍ قبليّة ، أو لنزاعٍ شخصي ، أو ثأراً من آل اُمّيّة ، (( أو بطراً أو أشراً )) كما ذكر (عليه السّلام) في إحدى مقولاته الشهيرة ، ولم يكن طالب ملكٍ ، أو متمنياً بخلافة كما يتصور البعض , أو كما ذكر البعض في كتاباته المسمومة من وعّاظ السلاطين ، أو المتملقين لطائفةٍ , أو المغيّرين للتاريخ , بل خرج في أمرٍ حتّمه عليه ما حمل من رسالة ربانيّة ؛ لما لديه من منزلة رفيعة عند ربه ، وما فرض عليه من وحي الله لعباده الصالحين في إرساء العدل ، وتغيير المعوّج ، وتبديل الباطل بالحق .
لقد أرسل الله (جلّ وعلا) نبيه محمّدٍ (صلّى الله عليه وآله) إلى العالمين ؛ لينقذهم من الظلمات التي كانوا يعيشون بها ، إلى نور الهداية . فهي كانت ثورة ضد الشرك ، وثورة ضد الكفر ، بين حاكمٍ أو نبي يدعو إلى الله وآياته ، مقابل قومٍ يعبدون الأصنام . إذاً هي ثورة بين الإسلام والشرك والأصنام ، هي ثورة الله في الأرض ضد الكفر والعصيان على الله .
وانتصرت الثورة الإسلاميّة ، ونشرت الدعوة الإسلاميّة في الأرض ، ووضعت قواعدها وأحكامها الآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر ، وتأسّست دولة العدل التي كان يقودها النبي محمّد (صلّى الله عليه وآله) , ويا لها من ثورة عدلٍ وحقٍ سماوي !
واستمر هذا العدل ما بقي الرسول (صلّى الله عليه وآله) في هذه الدنيا يقود ويسوس الناس بما أنزل الله عليه من أحكامٍ وآيات . وبعد أن انتقل الرسول الكريم (صلّى الله عليه وآله) إلى جوار ربّه تغيّرت بعض المفاهيم السياسية ، وكان أشدّها تغيّراً عندما وصل الأمر في هذه الدولة العظيمة إلى مفترق طرق بين الحق والباطل ، وكان لا بدّ من إرساء قواعد جديدة تنظّم هذه الدولة وتضع لها خطوطاً جديدة .
وهنا جاءت ثورة الحسين (عليه السّلام) التي أرسى فيها قاعدة جديدة هي ثورة المسلمين ضد الحاكم الظالم ؛ ليغيّر مفهوم إطاعة ولي الأمر العمياء التي تقود إلى الهلاك الدنيوي والديني . فوقف الحسين (عليه السّلام) ليواجه هذا الظلم ، ويرسم الطريق لأجيالٍ قادمة ، وليبيّن لهم أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أعظم من إطاعة ولي الأمر المستبد الظالم الكافر ، وأن ينطق المسلم بكلمة الحقِّ حتّى ولو كان ثمنها حياته وحياة أبنائه .
يا لها من وقفةِ حقٍ أمام الباطل ! إنها وقفة لإصلاح حال المسلمين ، وإزالة دولة الكفر والنفاق , وبداية الطريق لدولة العدل الإلهي التي ستقام على يد بقية الله في الأرض (عجّل الله تعالى فرجه) .
لقد كان الحسين (عليه السّلام) مدرسة لمن أراد من أتباعه ومن المسلمين جميعاً أن يدخل فيها ويتعلّم ؛ ليقف بوجه الطواغيت ، وكانت رسالته موجّهة لمن سيأتي بعده من الأجيال , وعلى شقّين :
الأوّل : للعلماء والفقهاء وأفاضل الناس ؛ ليكونوا قدوة لمَن بمعيّتهم من الضعفاء قدوة في التضحية ، وليكونوا حاملين لوصيته ورسالته ومنفّذين لها ، وليقولوا كلمة الحق بوجه السلطان الجائر (وإنها لأعظم شهادة) , وليقودوا الناس في ثورات ضد طغاة عصرهم .
الثاني : للضعفاء . ورسالته تحتّم عليهم أن يحيوا هذه الذكرى ؛ لتكون نبراساً يُقتدى به لمن يخلفهم من الأجيال ، وليكونوا كأصحاب الحسين (عليه السّلام) وأتباعه , يُقاتلون ويقاتلون حتّى يصدح الحق ، وتتصدّع دولة الكفر والنفاق ؛ ليمهدوا لدولة الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه) .
لقد أثبت التاريخ أنّ وقفة الحسين (عليه السّلام) في ملحمة الطفِّ العظيمة أثمرت وحفظت رغم محاولات الكثيرين من الملعونين طمسها ؛ حيث توالت الثورات بعدها منادية بالحقِّ والعدل ، ومواجهة للطواغيت . ولولا هذه الملحمة العظيمة لما بقي الإسلام كما نزل على النبي (صلّى الله عليه وآله) ، ولما حفظت تعاليمه .
ولقد شهد العالم والتاريخ هذه الثورات العظام وسجّلها في صفحاته البيض الناصعة ، وحفظ شخوصها بفخر وعزٍّ وشموخ ، وما زال التاريخ يكتب سطوراً من البهاء لأتباع الحسين (عليه السّلام) وحاملي وصيته في بقاع الأرض .