إنّ الإمام الحسين (ع) وقف ليعالج مرضاً من أمراض الاُمّة، كما وقف من قبله أخوه الإمام الحسن ـ عليه أفضل الصلاة والسلام ـ ليعالج مرضاً آخر من أمراض الاُمّة، بينما قُدِّر للإمام الحسن أن يعالج مرض الشك في الاُمّة الإسلامية التي بدأت في عهد أمير المؤمنين (ع) تشكّ في الخط الرسالي الذي سار عليه قادة أهل البيت (ع)، واستفحل لديها هذا الشكّ حتّى تحوّل إلى حالة مرضية في عهد الإمام الحسن عليه السلام، هذه الحالة المرضية التي لم يكن بالإمكان علاجها حتّى بالتضحية، عالج الإمام الحسين عليه السلام حالة مرضية اُخرى هي حالة انعدام الإدارة مع وضوح الطريق، فالاُمّة الإسلامية التي كانت تشكّ (أو التي بدأت تشكّ) في واقع المعركة القائمة داخل الإطار الإسلامي بين الجناحين المتصارعين اتّضح لها بعد هذا الطريق، لكن هذا الطريق اتضحت لها معالمه بعد أن فقدت إرادتها، وبعد أن نامت واستطاع الذين اغتصبوها وسرقوا شخصيّتها وزوّروا إرادتها وأباحوا كرامتها، واستطاعوا أن يخدّروها وأن يجعلوها غير قادرة على مجابهة موقف من هذا القبيل، هذه الحالة المرضية الثانية عالجها الإمام الحسين عليه الصلاة والسلام بالموقف الذي شرحناه يشير إلى ذلك ملخص ما كتبه سماحة السيّد كاظم الحائري: إن الإمام الحسين عليه السلام كانت أمامه عدّة مواقف عملية، كان بإمكانه عليه السلام أن يتّخذ أيّ واحد منها بعد أن طلب يزيد منه أن يبايع:
الموقف الأوّل: أن يبايع يزيد بن معاوية كما بايع أمير المؤمنين من قبل.
الموقف الثاني: أن يرفض البيعة لكن يبقى في مكة أو المدينة.
الموقف الثالث: أن يلجأ إلى بلد من بلاد العالم الإسلامي كما اقترح عليه أخوه محمّد بن الحنفية.
الموقف الرابع: أن يتحرك ويذهب إلى الكوفة مستجيباً للرسائل التي وردته من أهلها ثم يستشهد بالطريقة التي وقعت…
لقد كان بالإمكان عدّة بدائل للموقف الذي اتّخذه الإمام الحسين (ع) إلاّ أنّ كلّ البدائل الممكنة والمتصوّرة لم تكن تحقّق الهدف في علاج هذه الحالة المرضيّة، وكان الطريق الوحيد لعلاج هذه الحالة المرضية هو الخطّ الذي سار عليه سيّد الشهداء عليه أفضل الصلاة والسلام.
شاهد موت الإرادة في المجتمع الحسيني
نحاول الآن أن نستعرض عمق هذا المرض في جسم الاُمّة الإسلامية حتّى نعرف أنّه بقدر عمق هذا المرض في جسم الاُمّة الإسلامية لابدّ وأن يفكّر في العلاج أيضاً بتلك الدرجة من العمق، وإذا كان من المقدّر كما فهمنا في محاضرات سابقة أنّ العلاج الوحيد للحالة المرضيّة الثانية هذه هي التضحية، فبقدر ما يكون هذا المرض عميقاً في جسم الاُمّة، يجب أن تكون التضحية أيضاً عميقة مكافئة لدرجة عمق هذا المرض في جسم الأمة، وهذا المرض كان يشمل كلّ قطاعات الاُمّة عدا بصيص هنا وهناك تجمّع مع الإمام الحسين عليه الصلاة والسلام.
المشهد الأول: التخويف بالموت من عقلاء المسلمين:
خلال خطّ عمله وحركته لاحظنا كيف أنّ الإمام الحسين ـ عليه الصلاة والسلام ـ حينما قرّر السفر من المدينة إلى مكّة، أو في النهاية حينما قرّر الهجرة من الحجاز متّجهاً إلى العراق، إلى تسلّم مسؤوليّاته كشخص ثائر حاكم على طواغيت بني اُمية كان يتلقّى من كلّ صوب وحدب النصائح من عقلاء المسلمين، أو من يسمّون يومئذٍ بعقلاء المسلمين الذين يؤثرون التعقّل على التهوّر، كيف أنّ هؤلاء العقلاء أجمعت كلمتهم على أنّ هذا التصرف من الإمام الحسين (ع) ليس تصرّفاً طبيعياً، كانوا يخوّفونه بالموت، كانوا يقولون له: كيف تثور على بني اُمية، وبنو اُميّة بيدهم السلطان، والرجال، والمال وكلّ وسائل الإغراء والترغيب والترهيب؟! كانوا يحدّثونه عن النتائج التي وصل إليها الإمام أمير المؤمنين (ع) في صراعه مع بني اُميّة، والتي وصل إليها الإمام الحسن (ع) في صراعه مع بني اُميّة، كانوا يمنّونه السلامة، كانوا لا يتصوّرون أنّ التضحية يمكن أن تكون بديلاً لحياة بالإمكان الاحتفاظ بأنفسها مهما كانت هذه الأنفاس، ومهما كانت ملابسات هذه الأنفاس، هذه النصائح لم يتلقّها الإمام الحسين من رعاع، أو من عوام وإنما تلقّاها من سادة المسلمين، من الأشخاص الذين كان بيدهم الحلّ والعقد في المجتمع الإسلامي، تلقّاها من أشخاص من قبيل عبد الله بن عباس [مقتل الحسين عليه السلام للمقرم: 196، طبعة بصيرتي]، وعبد الله بن عمر بن الخطّاب [المصدر نفسه: 155]، وعبد الله بن جعفر الطيّار، ومن قبل أخيه محمّد بن الحنفية [المصدر نفسه: 149].، ومن قبل غيرهم من سادة الرأي في المجتمع الإسلامي، حتّى أنّ عبد الله بن جعفر [المصدر نفسه: 195 ـ 196]. الذي هو ابن عمّه، الذي هو ابن أخي علي بن أبي طالب، بالرغم من ارتباطه النسبي الوثيق بالخطّ كان منهاراً نفسياً إلى الدرجة التي أرسل فيها رسالة إلى الإمام الحسين (ع) حينما سمع بعزمه على سرعة الخروج من مكة: أن انتظر حتى ألحق بك، وماذا كان يريد من هذا الانتظار؟ الإمام الحسين (ع) لم ينتظره، فحينما وصل عبد الله بن جعفر إلى مكة كان الإمام الشهيد قد خرج منها، فذهب عبد الله بن جعفر رأساً إلى والي بني اُميّة في مكة وأخذ منه كتاب الأمان للحسين (ع)، وذهب بالكتاب إلى الحسين وهو يرى أنّه قد استطاع بهذا أن يقضي على كلّ مبرّرات خروج الحسين، لماذا يخرج الحسين (ع) من مكة؟ لأنّه خائف فيها وقد جاءه الأمان من سلاطين بني اُميّة.
هذه النصائح كانت تعبّر عن نوع من الإنهيار النفسي الكامل الذي شمل زعماء وسادة المسلمين فضلاً عن الجماهير التي كانت تعيش هذا الانهيار مضاعفاً في أخلاقها وسلوكها وأطماعها ورغباتها، هذه السلبية والبرود المطلق الذي كان يواجهه الإمام الحسين (ع)، أو تواجهه حركة الإمام الحسين (ع) بالرغم من قوّة المثيرات، هذا البرود المطلق في لحظات ترقّب العطاء الحقيقي كان يعبّر عن ذلك الانهيار النفسي على مختلف المستويات.
المشهد الثاني: موقف عبد الله بن الحر الجعفي:
الحسين عليه الصلاة والسلام بنفسه يقصد عبد الله بن الحرّ الجعفي إلى خيمته ويدعوه ليرتبط بهذا الخطّ، ويتّصل به وهو أعرف الناس بصحّة هذا الخطّ وصوابه، فيعزّ عليه أن يقدّم قطرة من دمه، ويعزّ عليه أن يقدّم شيئاً سوى الفرس [المصدر نفسه: 222 ـ 225]. فقط، لم يستطع أن يذوق طعم التضحية إلاّ على مستوى تقديم فرس واحدة فقط.
المشهد الثالث: موقف زعماء البصرة:
الإمام الحسين (ع) يكتب إلى ستّة من زعماء البصرة يختارهم من اُولئك الذين لهم ارتباطات مع خطّ الإمام عليّ عليه السلام فإنّ زعماء البصرة على قسمين: زعماء مرتبطون مع خطّ بني اُميّة وخطّ عائشة وطلحة والزبير، وزعماء يرتبطون مع خطّ الإمام عليّ ومدرسته، فيختار الإمام الشهيد (ع) ستة من الاشخاص الذين يرتبطون بمدرسة الإمام عليّ ويشعرون بالولاء لمفاهيم هذه المدرسة وشعاراتها وأهدافها، ويكتب إليهم يستنصرهم ويستصرخهم، ويشعرهم بالخطر الدائم الذي تواجهه الاُمّة الإسلامية ممثّلاً في كسرويّة وقيصرية يزيد بن معاوية، فماذا يكون ردّ الفعل لهذه الرسالة؟ يكون رد الفعل ـ إذا استثنينا شخصاً واحداً وهو عبد الله بن مسعود النهشلي الذي كتب مستجيباً ـ هو البرود المطلق، أو الخيانة، إذ يبعث أحدهم برسول الحسين إلى عبيد الله بن زياد، وكان وقتئذٍ والياً على البصرة (صدّقوا: أنّ هذا الشخص الذي قام بهذا العمل هو من شيعة عليّ بن أبي طالب، ولم يكن عثمانياً، بل كان علويّاً، ولكنّه علوي فقد كلّ مضمونه، فقد كل معناه، فقد كلّ إرادته) أخذ الرسول مع الرسالة إلى عبيد الله بن زياد لكن لا حبّاً بعبيد الله بن زياد، ولا إيماناً بخطّ عبيد الله بن زياد، بل حفاظاً على نفسه، وإبتعاداً بنفسه عن أقلّ مواطن الخطر، خشية أن يطّلع في يومٍ ما عبيد الله بن زياد على أنّ ابن رسول الله كتب إليه يستصرخه وهو لم يكشف هذه الورقة للسلطة الحاكمة وقتئذٍ، فيُتّخذ هذا نقطة ضعف عليه، فلكي يبتعد عن أقلّ نقاط الضعف، ولكي يوفّر له كلّ عوامل السلامة، وكلّ ضمانات البقاء الذليل أخذ رسول الإمام والرسالة وقدّمهما بين يدي عبيد الله بن زياد، فأمر عبيد الله بن زياد بالرسول فقتل [المصدر نفسه: 160]. (رضوان الله عليه).
شخص آخر من هؤلاء الزعماء الأحنف بن قيس الذي عاش مع خطّ جهاد الإمام علي (ع) وعاش مع حياة الإمام عليّ عن قرب، وتربّى على يديه، ماذا كان جوابه لابن الإمام عليّ (ع)؟ أمره بالتصبّر والتريّث وقال له في رسالة أجاب بها على رسالته: ولا يستخفنّك الذين لا يوقنون [نفس المصدر]. معرّضاً بالطلبات التي كان الإمام الحسين عليه الصلاة والسلام يتلقّاها من شيعته. وفي الواقع كانت رسالة الأحنف تعبّر عن أخلاقية الاُمّة المهزومة، فإنّ الاُمّة في حالة تعرّضها للهزيمة النفسية، وفي حالة فقدانها لإرادتها وعدم شعورها بوجودها كاُمّة تنشأ لديها بالتدريج أخلاقية معيّنة هي أخلاقية هذه الهزيمة. وأخلاقية هذه الهزيمة تصبح قوّة كبيرة جدّاً بيد صانعي هذه الهزيمة لإبقاء هذه الهزيمة وإمرارها، وتعميقها وتوسيعها، ويصبح العمل الشجاع تهوراً والتفكير في شؤون المسلمين استعجالاً، ويصبح الاهتمام بما يقع على الإسلام والمسلمين من مصائب وكوارث نوعاً من الخفّة، واللاتعقّل، نوعاً من العجلة وقلة الأناة، نوعاً من التسرّع في العمل أو التفكير.
هذه الأخلاقية هي أخلاقية الهزيمة التي صنعتها الاُمّة؛ لكي تبرّر هذه الهزيمة حينما تُهزم وتشعر بأنّها قد انتهت مقاومتها، فتنسج بالتدريج مفاهيم غير مفاهيمها الاُولى، وقيماً وأهدافاً ومُثُلاً غير القيم والمثل والأهداف التي كانت تتبنّاها في الأوّل، لكي تبرّر أخلاقياً ومنطقياً وفكرياً الموقف الذي تقفه.
فالإمام الحسين عليه الصلاة والسلام كان يريد ـ في الواقع ـ أن يبدّل هذه الأخلاقية، ويصنع أخلاقية جديدة لهذه الاُمّة تنسجم مع القدرة على التحرّك، والارادة حينما كان يقول: “لا أرى… والحياة مع الظالمين إلاّ برماً” [بحار الانوار 44: 192]. لم يكن هذا مجرّد شكوى، وإنّما كان عمليّة تغيير لأجل إيجاد أو ـ في الواقع ـ إرجاع هذه الأخلاقية الاُخرى التي فقدها الأحنف بن قيس، وفقدها كل الناس الذين مشوا مع الأحنف بن قيس.
المشهد الرابع: مغادرة بني أسد محلّ سكناهم:
حبيب بن مظاهر يستأذن من الإمام الحسين عليه الصلاة والسلام أن يذهب ويدعو عشيرته، ويدعو بني أسد للالتحاق بخطّ سيد الشهداء، وكلّ المسلمين يعرفون من هو حبيب بن مظاهر في مواقفه وجهاده، وفي بياض تأريخه وصفاء سيرته، وفي ورعه وتقواه، يذهب حبيب بن مظاهر ليطلب العون والمدد من عشيرة بني أسد للإمام عليه الصلاة والسلام، وتكون النتيجة لذلك أن تغادر عشيرة بني أسد بأجمعها تلك الليلة المنطقة، وتنسحب هذه العشيرة انسحاباً إجماعياً، ويرجع حبيب بن مظاهر ليبلّغ الإمام الحسين بهذه النتيجة الغريبة وهي: أنّ عشيرته تخشى أن تبقى بعد اليوم، تخشى أن تبقى حتى حيادية، لأنّه قد لا يكتفي عمر بن سعد بهذا الحياد، فتغادر المنطقة نهائياً، ولم يكن جواب سيّد الشهداء على ذلك إلاّ أن قال: “لا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم” [مقتل الحسين عليه السلام: 254]..
هذا البرود والسكون، هذه الهزيمة النفسية قبل الهزيمة الخارجية هي مرض الاُمّة الذي كان يعالجه الإمام الحسين عليه السلام.
المشهد الخامس: موقف أهالي الكوفة من مقتل رسول الحسين عليه السلام:
الصيداوي ـ وأظنّه: قيس بن مسهر [المصدر نفسه: 219 ـ 220]. ـ الذي أرسله الإمام الحسين عليه السلام؛ لكي يبلّغ رسالته إلى أهل الكوفة يعطيهم إشعاراً بأنّه في الطريق، وأنّه على الأبواب… هذا الرسول يدخل الكوفة بعد أن انقلبت، وبعد أن تغيّرت الكوفة غير الكوفة، وسيطر عبيد الله بن زياد على كلّ القطاعات العسكرية في الكوفة، يؤخذ (قيس بن مسهر) أسيراً إلى عبيد الله بن زياد، وقبل أن يصل إليه يمزّق الكتاب، ويقف بين يدي عبيد الله بن زياد يقول له: لماذا مزّقت الكتاب؟ يقول: لأني لا اُريد أن تطّلع عليه، يقول له: وماذا كان فيه؟ فيقول: لو كنت اُريد أن أخبرك لما مزّقت الكتاب، يقول له: إنّي أقتلك إلاّ إذا صعدت على هذا المنبر وقلت بالصراحة شيئاً في سبّ عليّ بن أبي طالب والحسن والحسين، هذا الرسول الأمين يغتنمها فرصة، ويصعد على المنبر في هذه اللحظة الحاسمة، في آخر لحظة من حياته، في هذا الإطار العظيم من البطولة والشجاعة والتضحية أمام عبيد الله ابن زياد، وأمام شرطته وجيشه يوجّه خطابه إلى أهل الكوفة ويقول: أنا رسول الحسين إليكم، إنّ الحسين على الأبواب، فيؤدّي هذه الرسالة بكل بطولة، وبكلّ شجاعة، فيأمر عبيد الله بن زياد به فيُقتَل، وماذا يكون الصدى لمثل هذه الدفعة المثيرة القوّية؟ الآن رسول الإمام الحسين ـ الذي كتب له أهل الكوفة يطلبونه ـ على المنبر بهذا الشكل غير الاعتيادي والسيف فوق رقبته وهو يودّع الحياة في آخر لحظة من اللحظات، وهو يبلّغهم الرسالة بكلّ أمانة وشجاعة، ويضحي في سبيل تقديمها بدمه وبروحه، فماذا يكون أثر ذلك؟ يكون أثر ذلك: أنّه حينما يأمر عبيد الله بن زياد به أن يُقتل فيُقتل يأتي شخص [المصدر نفسه: 220. وهو عبد الملك بن عمير اللخمي] من أهل الكوفة فيقطع رأسه، فيقال له: لماذا قطعت رأسه؟ فيقول: لكي أريحه بذلك. هذه الاُمّة لا تفكّر إلاّ على هذا المستوى من الشفقة على حياتها، الشفقة التي تشعر بها هي، الشفقة على هذا المستوى أما الشفقة على الوجود الكلي، الشفقة على الكيان، الشفقة على العقيدة قد انتزعت من قلوبها لأنّها تكلّف ثمناً غالياً، الشفقة التي لا تكلّف ثمناً هي أن تقطع رقبة هذا الشخص، وأن يريحه من هذه الحياة في ظل عبيد الله ابن زياد.
المشهد السادس: الاندفاع نحو خطّ السلطة:
إلى جانب ذلك ـ أو في عكس ذلك ـ يوجد الاندفاع المحموم نحو خطّ السلطان، نحو خط الحكم القائم، استطاع عبيد الله بن زياد خلال اسبوعين أو ثلاثة أسابيع ـ على أكثر تقدير ـ بعد مقتل مسلم بن عقيل إلى أوّل المحرّم أن يجنّد عشرات الاُلوف من أبناء هذا البلد الذي كان وما يزال ـ إلى ذلك الوقت ـ يحمل رسالة عليّ، والولاء له، جنّد من هذا البلد عشرات الآلاف، واستجاب له مئات من الأشخاص الذين كانوا قد حاربوا مع الإمام عليّ في صفّين، وحاربوا مع الإمام علي في سائر مراحل جهاده، استجاب له شخص من قبيل عمرو بن الحجّاج، ومن هو عمرو بن الحجّاج؟ هو من اُولئك الذين اضطهدوا في سبيل الإمام عليّ، من أولئك الذين عاشوا المحنة أيّام زياد، ولكنّه لم يستطع أن يواصل المحنة، طلّق عقيدته قبل أن يصل إلى آخر الشوط، لأنّه شعر أنّ هذه العقيدة تكلّف ثمناً غالياً، وأنّه إذا طلقّها أمكنه أن يشتري بدلاً عنها دنيا واسعة. هذا الشخص الذي رافق الإمام عليّاً في جهاده انهار أخيراً وانتهت إرادته، انتهت شخصيّته كإنسان مسلم يفكّر في الإسلام. عمرو بن الحجّاج نفسه كلّفه عمر ابن سعد بأسوأ عمل يمكن أن يُكلّف به إنسان كلّفه بالحيلولة دون سيّد الشهداء والماء، بقي واقفاً على الماء يمنع ابن رسول الله والبقيّة الباقية من ثقل النبوة عن أن يشربوا من الماء، واستجاب لذلك شبث بن ربعي [المصدر نفسه: 239 ـ 240]، ومن هو شبث بن ربعي؟ هو الرجل الذي عاش مع جهاد أميرالمؤمنين، الرجل الذي كان يعي مدلول حرب صفين، وكان يدرك أنّ الإمام علياً (ع) في حرب صفين يمثل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة بدر، ولكنّ الدنيا، الانهيار النفسي، ولكن النَّفَس القصير خنقه في النهاية، فذاب وتميّع، واشتدّ تميّعه بالتدريج إلى أن وصل إلى حدّ: أنّ عبيد الله بن زياد يبعث إليه ليقاتل الحسين ابن رسول الله، فماذا يكون العذر؟ ماذا يكون الجواب؟ لا يملك أن يعتذر بعذرٍ من الأعذار إلاّ أن يقول: “أنا مريض” كلمة باردة جدّاً على مستوى بروده النفسي، عبيد الله بن زياد يبعث إليه الرسول مرّة اُخرى ليقول له: المسألة حدّية، لا مرض في هذا الحالة، إمّا أن تكون معنا، وإمّا أن تكون عدوّنا، وبمجرّد أن يتلقّى هذه الرسالة ـ ويعرف أنّ المسألة حدية ـ يقوم شبث بن ربعي ويلبس ما كان يلبسه، ثم يخرج متّجهاً إلى عبيد الله بن زياد وهو يقول: لبيك… هذه الاستجابات من هذا الطرف، وذاك البرود، وتلك السلبية من ذلك الطرف هي أكبر دليل على هذا المرض.
المشهد السابع: محنة مسلم وهاني:
والدليل الذي هو أكبر من هذا هي محنة مسلم وهاني التي يقلّ نظيرها في التأريخ، هذه المحنة تصوّر هذا المرض وهو في قمّته، وهو في شدّته بأروع تصوير، أو بأفظع تصوير، قد يذهب وهم الإنسان إلى أنّ مسلم بن عقيل كيف اتّفق له أن يفرّط بكل هذه القوى الضخمة التي كانت بين يديه؟! كيف فرّط بهذه القوى الشعبية التي بين يديه بين عشية وضحاها وبقي وحيداً فريداً يتسكّع في الطرقات؟! كيف لم يستثمر هذه القوى في معركته مع عبيد الله بن زياد؟!.
في الواقع: أنّ هذه القوى لم تكن قوىً إلاّ على الورق، لم تكن هذه القوى قوىً إلاّ في سجل تسجيل الأسماء حينما سجّل الأسماء فبلغت ثمانية عشر ألفاً، أو بلغت عشرين ألفاً، أو بلغت ثلاثين ألفاً، كانت قوىً على الورق، وذلك لأنّ هؤلاء الثمانية عشر أو العشرين ألفاً كانوا جزءاً من هذه الاُمّة الميّتة، من هذه الاُمّة المنهارة، هذا الانهيار العجيب المفاجئ في لحظة، هذا الإنهيار العجيب المفاجئ يعكس تلك الهزيمة المسبقة، هزيمة النفس، هزيمة الوجدان، هزيمة الضمير، وتلك الهزيمة، أيّ: هزيمة النفس والوجدان والضمير هي أساس هذه الهزيمة [أي: هزيمة تلك القوى الشعبية الضخمة التي كانت بين يدي مسلم عليه السلام وتشتّتها بين عشيّة وضحاها].
عبيد الله بن زياد يبعث إلى هاني بن عروة [مقتل الحسين عليه السلام: 177 ـ 178]. يقول له: تعال زر الأمير، الأمراء لا يطيقون الجفاء، لماذا أنت منقطع عن الأمير؟ هذا في الوقت الذي كان مسلم بن عقيل في بيت هاني بن عروة، والشيعة يذهبون اليه متستّرين، هاني بن عروة يأتي إلى عبيد الله بن زياد فيتّهمه بأنَّ مسلماً موجود عندك، وأنّك تفكر في الخروج وشقِّ عصا الطاعة، هاني بن عروة يصطدم مع عبيد الله بن زياد ويقول له بأنّي لا أدري أين مسلم، يقول عبيد الله: لا بدّ لك أن تجده. فيقول هاني: لو أنّ مسلماً كان تحت قدمي لما رفعت قدمي، ثمّ يقدّم هاني له نصيحة بكلّ قوة، وبكل شجاعة ـ هو من الأفراد القلائل الذين استطاعت حركة الحسين أن تكشفهم في مجموع هذه الاُمّة الميّتة ـ فيقول له: لي نصيحة لك، قال عبيد الله: وما هي هذه النصيحة؟ قال: النصيحة أن تذهب أنت وأهل بيتك، وتحمل معك كلما لديك من أموال إلى الشام سالماً صحيحاً، لا شغل لنا بك. كان يتكلّم هاني بن عروة وهو يتخيّل أنّ له رصيداً، وأنّ عشرات الآلاف من خلفه سوف تنفّذ إرادته إذا أصبحت هذه الإرادة بحاجة إلى التنفيذ حينما اشتدّ غضب عبيد الله بن زياد، وحينما غضب هاني، حينما أمر بأن يحبس هاني انعكس الخبر في الكوفة بأنّ هانياً قتل أو في معرض القتل، جاء عمرو بن الحجّاج وجاء معه أربعة آلاف إنسان من عشيرته لكي يتفقّدوا أحوال هاني بن عروة ووقفوا بباب القصر يطالبون بحياة هاني بن عروة، عبيد الله بن زياد يبعث إلى شريح القاضي باعتباره قاضياً لا بدّ أن تتوفّر فيه شرائط فهو يعتبر شاهداً ثقة إذا استعمل شهادة، فقال له: تعال ادخل إلى الغرفة التي سجن فيها هاني، انظر اليه حيّاً، واشهدْ أمام هؤلاء بأنّ هانياً حيّ، فدخل شريح القاضي إلى الغرفة فرأى أنّ هانياً حيّ، يقول شريح القاضي ـ لعنة الله عليه ـ بمجرّد أن دخلت إلى الغرفة ورأيت هاني بن عروة صاح في وجهي: أين ذهب المسلمون؟! لو أن عشرة يهجمون على القصر الآن لأنقذوني؛ لأنّ القصر ليس فيه شرطة، ليس فيه جيش، يعني لو أنّ عشرة فقط كانوا مستعدين لأنّ يموتوا في سبيل الله لتغيّر وجه الكوفة يومئذٍ لأن البيت ليست فيه شرطة، ولكن الشرطة كانت أوهام هذه الاُمّة التي فقدت شجاعتها وإرادتها. هذه الاُمّة التي فقدت شخصيتها خيّل إليها أنّ هذا القصر هو جبروت، هذا القصر هو المعقل الذي لا يمكن اجتيازه، بينما هذا القصر كان أجوف لم يكن فيه شرطة ولا جيش، ولم يكن فيه سلاح بالقدر الكافي الذي يمكن أن يصمد أمام عشرة فقط، لذا قال هاني: أين ذهب المسلمون، عشرة فقط يكفون لإنقاذي، يكفون للقضاء على هذا القصر، يكفون لاحتلال هذا القصر، شريح القاضي يقول: أنا رجعت إلى عمرو بن الحجّاج وأنا مكلّف بأن اُؤذّي الشهادة الشرعية بأنّ هاني بن عروة حيّ حتى يرجع عمرو بن الحجاج، لأن عمرو بن الحجاج والأربعة آلاف الذين جاؤوا معه قصارى همهم أن يكون هذا حيّاً، ليس لهم همّ وراء أن يكون هذا حيّاً، يقول رجعت فهممت أن ابلّغ عبارة هاني بن عروة لعمرو بن الحجّاج، أن أقول له أنّ هانياً يطلب عشرة فقط، يقول لو أن عشرة يهجمون على هذا (البُعبُع) [يراد بها الأمر المخيف والمرعب].، على هذا الشبح الضئيل الذي يكمن فيه عبيد الله ابن زياد، لتمزّق هذا الشبح، وتحطّم هذا (البُعبُع)، يقول: هممت ثم التفت إلى أنّ شرطي عبيد الله بن زياد واقف إلى جنبي فسكتّ. وأدّى الشهادة المطلوبة منه رسميّاً وحكومياً بأنّ هانياً حيّ، ورجع عمرو بن الحجاج، وقتل هاني في اليوم الثاني.
مسلم بن عقيل بنفسه يخرج مع أربعة آلاف شخص يطوّقون قصر الأمارة وعبيد الله بن زياد ليس معه إلاّ ثلاثون على ما تقول الرواية، وعشرون من أشراط الكوفة. مسلم بن عقيل معه أربعة آلاف لكن أربعة آلاف ليس لهم قلوب، ليس لهم أيدي ليس لهم إرادة، اقرؤوا أسماء قادة مسلم بن عقيل في هذه المعركة هؤلاء الأربعة آلاف فيهم جماعة من كبّار يوم عاشوراء لكنهم انهزموا جميعاً، لم يبقَ مع مسلم واحد أبداً، يعني أنّ حركة الحسين (ع) هي بنفسها صنعت هؤلاء، هي بنفسها صعّدت هؤلاء، حتى هولاء السبعون الذين استشهدوا مع الحسين عليه السلام كان عدداً منهم نتاج محنة حركة سيّد الشهداء، وإلاّ فلماذا انهزموا؟ على الأقلّ يبقى مع مسلم شخص يعرف الطريق. صلّى في المسجد وتفرق الناس، يقول التاريخ: كانت تأتي المرأة فتنتزع زوجها وأباها وأخاها وتقول: مالك وعمل السلاطين؟ هذا نهاية فقدان الارادة، إنّ الرجل يذوب ويتميّع؛ لأنّ امرأة واحدة تأتي وتنتزعه انتزاعاً. هذه المرأة هي نفسها تلك المرأة التي وقفت بعد الإمام الحسين عليه السلام تلك الوقفات العظيمة على طول الخطّ، هذه المرأة هي نفس تلك المرأة التي أحبطت مؤامرة إمارة عمر بن سعد، حينما مات يزيد بن معاوية وبويع من قبل الأمويين في الكوفة لعمر بن سعد موقّتا، فأصبح أميراً على الكوفة، من الذي أسقط إمارته؟ اسقطته تلك المرأة التي كانت تذهب إلى زوجها وأبيها وأخيها تنتزعهم انتزاعاً، وتقول لهم: لا شغل لك مع السلاطين، هذه المرأة بنفسها قامت بمظاهرة وقفت أمام بيت عمر بن سعد تندب الحسين وتصيح: أن قاتل الحسين لا يمكن أن يكون أميراً في الكوفة حتى سقط عمر بن سعد.
الإمام الحسين عليه السلام يخطط لعملية التحويل
الإمام الحسين عليه السلام في الواقع قد اتّخذ منذ البدء موقفاً إيجابياً واضحاً صريحاً بينه وبين ربّه، كان قد صمّم منذ اللحظة الاُولى على أن يخوض المعركة مهما كلفه الأمر وعلى جميع الأحوال والتقادير، وأن يخوضها إلى آخر الشوط وإلى أن يضحي بآخر قطرة من دمه، كان يفكر تفكيراً إيجابياً مستقلاً في ذلك، لم يكن يتحرّك نتيجة لردود فعل من الاُمّة، بل كان هو يحاول أن يخلق ردود الفعل المناسبة لكي يتحرّك، ومن أدلة ذلك أنّ الإمام الحسين عليه السلام بدأ بنفسه الكتابة إلى زعماء قواعده الشعبية في البصرة. نعم لم يروِ لنا التأريخ أنّه كتب ابتداءً بشكل مكشوف واضح إلى زعماء قواعده الشعبية في الكوفة، ولكنّ التأريخ حدّث بأنّه كتب وابتدأ بالحديث وتحريك قواعده الشعبية في البصرة، وأعلن في رسالته لهم أنه قد قرّر الخروج على سلطان بني اُميّة. قال لهم بأنّ هذا الخطّ الذي يمثّله هو ويمثّله أخوه وأبوه هو الحقُّ، إلاّ أنّه سكت وسكت أبوه وأخوه حينما كان الكتاب والسنّة تراعى حُرمتهما. أما حينما انتهكت حرمة الكتاب وحرمة السنّة، حينما اُميتت السنّة، حينما أُحيِيت البِدَعُ، حينما انتشر الظلم لا بدَّ لي أن أتحرك، ولا بدَّ لي أن أُغيّر، ولا بدَّ لكم أن تحقَّقوا في هذا الموقف درجة تفاعلكم مع رسالتكم. قال ذلك بوضوح، وطلب منهم بشكل ابتدائي الالتفاف حول حركته، وهذا يعني أنّ الامام الحسين (ع) لم يكن في موقفه يعبّر عن مجرد استجابة لردود فعل عاطفية، أو منطقية في الأُُمّة، بل كان هو قد بدأ منذ اللحظة الأُُولى في تحريك الأُُمة نحو خطّته وخطِّ عمله. موقفه من والي المدينة أيضاً واضح في ذلك حينما استُدعِي من قِبَلِ والي المدينة وعرض عليه الوالي في نصف الليل أن يبايع يزيد بن معاوية، وحينما تكشَّف لوالي المدينة أنّ امتناع الحسين عليه السلام عن البيعة هو بحسب الحقيقة لون من ألوان الرفض، صرّح بعد هذا الإمام الحسين بكل وضوح عن إيمانه بحقّه في الخلافة، وقال نصبح وتصبحون، وننظر وتنظرون أيّنا أحق بالخلافة، وكان هذا واضحاً في إعلانه العزم والتصميم على حركة مسلّحة ضدّ السلطان القائم وقتئذٍ. هذا التهديد وتلك الرسالة الابتدائية لزعماء قواعده الشعبية في البصرة ـ إلى غير هذا وذاك من القرائن والدلائل ـ يعبّر عن أنّ الإمام الحسين عليه الصلاة والسلام كان يخطّط تخطيطاً ابتدائياً لتحريك الأُُمّة وكان قد صمّم على أن يتحرّك مهما كانت الظروف والأحوال. هذا واقع التخطيط.
أساليب كسب أخلاقية الهزيمة
الأسلوب الأول: عدم البدأة بالقتال
من جملة الأساليب التي اصطنعها عليه أفضل الصلاة والسلام للتوفيق بين الأخلاقيتين، لمجاملة أخلاقية الهزيمة لكي يحوّلها بالتدريج إلى أخلاقية التضحية أنّه طرح شعار: أن لا يبدأ الآخرين بقتال. هذا الشعار كان قد طرحه أمير المؤمنين عليّ عليه الصلاة والسلام، ولكنَّ فرقاً كبيراً بين الشعار الذي طرحه الإمام علي عليه السلام والشعار الذي طرحه الإمام الحسين عليه السلام. الإمام علي عليه السلام كان رئيس دولة، ورئيس الدولة من المفروض أن لا يبدأ أحداً من المواطنين بقتال إلاّ إذا بدأه المواطن بشقّ عصا الطاعة، والتمرد عليه، والقتال، فكان من المفروض أنّ الإمام أمير المؤمنين عليه السلام لا يبدأ عائشة مثلاً بقتال، لا يبدأ الزبير أو طلحة بقتال، لأنهم مواطنون في دولة هو رئيسها، ما لم يخرجوا عن الخط يحاربوا الوضع الشرعي الحاكم في تلك الدولة، فكان شعار: أن لا يبدأ أحداً من المواطنين بقتال مفهوماً وواضحاً. أما على مستوى حركة الإمام الحسين عليه السلام الذي خرج ثائراً على دولة قائمة وسلطان قائم، فليس من المنطقي أن يُقال: إنَّ شخصاً يثور على سلطان قائم لا يبدأ هذا السلطان القائم بقتال، ولكنه عليه أفضل الصلاة والسلام طرح هذا الشعار لكي يكون منسجماً مع أخلاقية الهزيمة أيضاً التي عاشتها الأُُمّة الإسلامية، لكي يسبغ على عمله طابع المشروعية على مستوى هذه الأخلاقية. حينما التقى عليه أفضل الصلاة والسلام بطليعة جيش عبيد الله بن زياد بقيادة الحرّ [المصدر نفسه: 214].، وكانت الطليعة عبارة عن ألف جندي اقترح عليه زهير بن القين [المصدر نفسه: 228] (على ما أظنُّ) أن يبدأهم بقتال، وقال: إنَّ هؤلاء أوهن علينا ممن يجيء بعدهم، فلنبدأ بقتال هؤلاء، ولنفتح الطريق إلى الكوفة، قال عليه الصلاة والسلام: إنّي لا أبدأهم بقتال، ومن مصاديق تطبيق هذا الشعار وضع مسلم بن عقيل عليه السلام، فإنّ مسلم بن عقيل ذهب إلى الكوفة رسولاً من قبل الإمام الحسين عليه الصلاة والسلام إلاّ أنّه ذهب في إطار هذا الشعار، وهذا هو الذي يفسّر لنا عدم قيام مسلم بن عقيل بأيّ عمل إيجابي سريع خلال الأحداث التي مرّت به في الكوفة.
قد يخطر على ذهن البعض أنّ مسلم بن عقيل لم يستطع أن يزن الأحداث أو أن يقدّر الظروف تقديرها اللازم، وأنّ مسلم ابن عقيل كان مدعوّاً إلى نوع من المبادأة لكي يستلم زمام الموقف. إلاّ أنّ هذا التصور إنّما ينتج عن تخيّل أنّ مسلم بن عقيل قد ذهب من قبل الإمام الحسين (ع) إلى الكوفة والياً، حاكماً، سلطاناً، وليس في نصوص التأريخ أيّ دلالة على ذلك، الإمام الحسين (ع) حينما أرسل مسلم بن عقيل وكتب معه كتاباً لم يكن هناك في الكتاب أدنى إشارة إلى إعطاء مسلم بن عقيل صفة الولاية والحاكمية والسلطان، وإنّما قال لأهل الكوفة: إنّي أرسلت ثقتي إليكم من أهل بيتي لكي يستطلع أحوالكم ويتأكّد من إخلاصكم، ويكتب إليّ بذلك، فإن كتب اليّ بما جاءت به كتبكم ورسلكم استجبت لدعوتكم وجئتكم.
مسلم بن عقيل كان مكلّفاً في نصّ هذا الكتاب باستطلاع أحوال تلك القواعد الشعبية التي راسلت الإمام الحسين عليه السلام، ولم يكن مكلّفاً بأزيد من ذلك، وبالفعل لم يقم مسلم بأزيد من ذلك، دخل الكوفة [المصدر نفسه: 167] ونزل ضيفاً في بيت المختار رحمة الله عليه، وبقي في بيت المختار مكشوف الحال تزوره الشيعة ويتجمعون عنده، فيتحدّث إليهم، ويؤكد لهم أهداف الإمام الحسين عليه السلام، ويؤكّدون له إخلاصهم واستعدادهم للعمل في تلك الأهداف، حتى يدخل عبيد الله بن زياد إلى الكوفة [المصدر نفسه: 170]، حينئذٍ فيتوتر الجوّ ويغيّر الموقف بشكل عام، مسلم ابن عقيل يرى أنّ من المصلحة أن ينتقل إلى بيت آخر ويكون مكثه في الكوفة سريّاً، لأن عبيد الله بن زياد بدأ عملية التعقيب والتفتيش عن مسلم بن عقيل، فبينما الوالي السابق كان سلبياً أصبح عبيد الله بن زياد يفكّر في مجابهة هذا التجمّع وبذرة هذا التجمع، حينئذٍ انتقل مسلم بن عقيل من بيت المختار إلى بيت هاني بن عروة [المصدر نفسه: 172]. رضوان الله عليه، وبقي هناك متكتّماً بمكثه، وأخذ الشيعة يزورونه متكتمين، وكان ظهور مسلم بن عقيل في اليوم المشهود مع أربعة آلاف، وكان العمل الذي مارسه حينما ذهب إلى قصر الإمارة مع هذا العدد من الشيعة وحاول أن يحتلَّ قصر الإمارة وأن يسيطر على مقاليد الموقف، كان هذا العمل خارج نطاق التخطيط المتفق عليه بين مسلم والحسين، كان هذا العمل بملاك الدفاع، لأنَّ مسلم بن عقيل رضوان الله عليه وقع في موقع الدفاع، عبيد الله بن زياد بدأ بالهجوم، أخذ يحاول أن يتعقّب مسلم بن عقيل وأن يقضي على هذه البذرة، فكان مسلم بن عقيل في حالة دفاع، ولم يكن في حالة غزو أو هجوم، يعني أنّ الظروف اضطرّته إلى أن يقف موقف المدافع، ولو لم يبدأ بهذه العملية إذن لهجم عليه عبيد الله بن زياد، وهجم على شيعته وهم في البيوت، فكان على مسلم بن عقيل لا بمنطق رسالته من قبل الحسين (ع) لا بمنطق الحاكمية والسلطان والولاية، بل بمنطق الدفاع أن يبدأ بمثل هذه العملية كدفاع عن نفسه وعن قواعده التي التفّت حوله حينما يحاول عبيد الله ابن زياد أن يبدأ بالهجوم. اقرؤوا رسالة الإمام الحسين عليه الصلاة والسلام التي بعثها مع قيس بن مسهر الصيداوي إلى الكوفة، كان في الرسالة يقول: إنّي سوف أرد اليكم قريباً، فانكمشوا على أمركم حتى آتي. الرسالة واضحة في أنّ الإمام الحسين عليه الصلاة والسلام لم يكن قد خطط لمسلم بن عقيل أن يملك الكوفة، وأن يسيطر على الكوفة كحاكم ووالٍ وسلطان، يقول: انكمشوا في أمركم يعني حاولوا أن تحفظوا هذا التجمع إلى أن آتي، فكان تحويل هذا التجمع إلى مجتمع، إلى سلطان، إلى دولة، كان كل هذا موقوفاً على دخول الحسين عليه الصلاة والسلام، ولهذا أوصى بأن ينكمشوا في أمرهم. إذاً فرسالة مسلم بن عقيل لم تكن إلاّ عبارة عن استطلاع أحوال تلك القواعد الشعبية، وتزويد الإمام الحسين بالمعلومات الواضحة المؤكّدة عن تلك القواعد الشعبية، ولم يكن مسلم بن عقيل مكلّفاً بحرب، وإنّما قام بما قام به في اللحظة الأخيرة كدفاع عن النفس، حيث لم يكن هناك طريق آخر للاستمرارية غير أن يتخذ هذا الموقف الدفاعي. كل هذا يعبّر في الواقع عن شعار عدم الابتداء بالقتال، هذا الشعار الذي كان من المفروض على الإمام الحسين عليه الصلاة والسلام أن يطرحه لكي يشعر الناس جميعاً بأنّ العملية عملية فوق الشك، وأنّها مشروعة حتى على مستوى تصورات الإنسان المسلم المهزوم روحياً وأخلاقياً، ونحن إذا لاحظنا الإمام الحسين عليه السلام في مسيره من مكة إلى العراق نرى أنّه كان باستمرار يؤكّد على ضرورة مواصلة السير والسفر لأنّه مدعوّ، ولا بدَّ له أن يجيب هذه الدعوة.
بلغه في الطريق أنّ مسلم بن عقيل قُتل ولم يغيّر من موقفه، أي لم يسقط هذا الشعار، بل بقي هذا الشعار مرفوعاً، وهو شعار أنّه مدعوّ من قبل الكوفة ولا بدّ له أن يجيب بالرغم من أنّه اطّلع على أنّ مسلم بن عقيل وهاني بن عروة قد قتلا، بعد هذا اطّلع على أن قيس بن مسهر الصيداوي قد قتل من قبل عبيد الله بن زياد، مع هذا لم يغيّر هذا الشعار، بل بقي يؤكّد أنّه مدعوّ من قبل أهل الكوفة ولا بدّ له أن يجيب هذه الدعوة، حتى التقى بالحرِّ بن يزيد الرياحي، جاءه الطرمّاح قال له: الحقْ بالجبل الفلاني وأنا أجمع لك عشرين ألف نفر من العشيرة الفلانية يلتفّون حولك، والله يغنيك بذلك عن الكوفة، قال عليه السلام: بيننا وبين القوم عهد، ولا بدّ لي أن أسير إليهم.
بعد كل هذه الدلائل من أهالي الكوفة على نكث العهد، مع هذا بقي الإمام الحسين يواصل تأكيده على هذا الشعار، إذاًً القصة في الواقع لم تكن قصة أن يقتنع الحسين (ع)، ولم يكن تحركه عليه السلام بينه وبين نفسه كنتيجة لردِّ فعل لطلب قواعده الشعبية في الكوفة، لأنّه اطّلع في أثناء الطريق على أنّ هذه القواعد الشعبية في الكوفة قد خانته، قد قتلت رسوله، قد قتلت ثقته من أهل بيته، ومع هذا كان يواصل السفر إليها، كان هذا الشعار شعاراً منسجماً مع الأخلاقية التي تعيشها الأُُمّة الإسلامية، وكان لا بدّ له أن يطرح هذا الشعار لكي يسبغ على العملية طابع المشروعية في نظر اُولئك الذين يحبّون السلامة، أُولئك الذين يرون في التضحية لوناً من ألوان التهوّر واللا معقولية وقلّة الأناة.
الاسلوب الثاني: حشد كل المثيرات العاطفية في المعركة
وكان من الأساليب التي اتخذها أيضاً عليه أفضل الصلاة والسلام لكسب هذه الأخلاقية ومجاملتها أنّه حشد في المعركة كل القوى والامكانيات، لم يكتفِ ـ عليه أفضل الصلاة والسلام ـ بأن يعرّض نفسه للقتل عسى أن تقول أخلاقية الهزيمة: إنّ شخصاً حاول أن يطلب سلطاناً فقُتل، بل أراد أن يعرّض أولاده للقتل، وأهله للقتل، ونساءه للسبي أراد أن يجمع على نفسه كل ما يمكن أن يجتمع على إنسان من مصائب وتضحيات وآلام، لأنّ أخلاقية الهزيمة مهما شكّكت في مشروعية أن يخرج إنسان للقتل، فهي لا تشكّك في أنّ هذا العمل الفظيع الذي قامت به جيوش بني اُميّة، قامت به جيوش الانحراف ضدّ بقية النبوّة، لم يكن عملاً صحيحاً على كل المقاييس، وبكل الاعتبارات، كان لا بدَّ للإمام الحسين عليه السلام أن يدخل في المعركة دمه وأولاده وأطفاله ونساءه وحريمه وكل الاعتبارات العاطفية، وكل الاعتبارات التأريخية، حتى الآثار التي كانت قد تبقّت له من عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، حتى العمامة، حتى السيف، لبس عمامة رسول الله، تقلّد سيف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أدخل كل هذه المثيرات التاريخية والعاطفية إلى المعركة، وذلك لكي يسدّ على أخلاقية الهزيمة كل منفذ وكل طريق إلى التعبير عن هزيمتها، وعن نوع من أنواع الاحتجاج على هذا العمل، لكي يهزّ بذلك ضمير ذلك الإنسان المسلم المهزوز الذي تميّعت إرادته، وهكذا كان… قد استطاع عليه الصلاة والسلام بهذا التخطيط الدقيق الرائع أن يهزّ ضمير ذلك الإنسان المسلم.
الدرس الذي نستفيده من التخطيط الحسيني
ومن هذا التخطيط يمكننا أن نستفيد درساً عاماً، وحاصل هذا الدرس: أن عملية التغيير في أخلاقية الأُُمّة لا يجوز أن تقوم بأيّ مجابهة واضحة للأخلاقية الفاسدة الموجودة في الأُُمّة، لأن المجابهة الواضحة الصريحة للأخلاقية الفاسدة الموجودة في الأُُمّة يكون معناها الانعزال عن هذه الأُُمّة والانكماش، وعدم القدرة على القيام بعمل مشروع في نظر هذه الأُُمّة حينما نريد أن ننفذ إلى ضمير الأُُمّة التي ماعت أخلاقياً، لا بدّ لنا أيضاً في نفس الوقت الذي نفكّر في إنشاء أخلاقيتها من جديد أن نفكّر في عدم مجابهة الأخلاقية القائمة بالشكل الذي يعزل هذا الشخص الذي يريد أن يغيّر أخلاقية الأُُمّة، فلا بدّ له أن يفكّر في انتهاج طريق في التغيير يستطيع به أن ينفذ إلى ضمير الأُُمّة، إلاّ إذا حافظ باستمرار على معقولية ومشروعية عمله في نظر الأمة كما عمل الإمام الحسين عليه الصلاة والسلام: لم يبق لدى شخص من أبناء الاُمّة الإسلامية أيّ شكّ في أنّ عمل الإمام الحسين (ع) كان عملاً مشروعاً صحيحاً، وأن عمل بني اُميّة كان عملاً ظالماً عاتياً جبّاراً.
وهذا الوضوح في الرؤية هو الذي جعل المسلمين يدخلون بالتدريج إلى آفاق جديدة من الأخلاقية تختلف عن أخلاقية الهزيمة، هذا الوضوح هو الذي هزّ ضمير الإنسان المسلم، وهو الذي يهزّه إلى يومنا هذا، فليس دم الإمام الحسين عليه السلام رخيصاً بدرجة يُكتفى في ثمنه بأن يهتزّ ضمير الإنسان المسلم في عصر واحد، أو في جيل واحد، لا يمكن أن يكون ثمن دم الإمام الحسين عليه السلام أن تتزلزل قواعد بني اُميّة، أو أن يكشف عن حقيقة بني اُميّة، أو أن تنتعش ضمائر جيل من اُمّة الإسلام… هذا لا يكفي ثمناً لدم الإمام الحسين الطاهر، بل أنّ ثمن دم الإمام الحسين ـ الذي هو أغلى دم سفك في سبيل الإسلام ـ أن يبقى محرّكاً، منوِّراً، دافعاً، مطهِّراً، منقِّياً على مرّ التاريخ لكل أجيال الاُمّة الإسلامية، لا بدَّ وأن يهزّ ضميرنا وضمير كل واحد منّا اليوم كما كان يهزّ ضمير المسلمين قبل أربعة عشر قرناً، لا بدّ أن يهزّ ضمير كلِّ واحد منّا حينما نجابه أيّ موقف من مواقف الإغراء، أو الترغيب أو الترهيب، لا بدّ وأن نستشعر تلك التضحية العظيمة حينما نلتفت إلى أننا مدعوون إلى تضحية جزئية بسيطة، حينما يتطلّب منّا الإسلام لوناً من التضحية وقدراً بسيطاً وضئيلاً من التضحية، لا بدّ وأن نلتفت دائماً إلى ذلك القدر العظيم غير المحدود من التضحية الذي قام به الإمام الحسين عليه السلام لكي نستصغر، ولكي يتضائل أمامنا أيّ قدر نواجهه في حياتنا ونكلّف أنفسنا بالقيام به في سبيل الإسلام.
إنّ الإسلام اليوم يتطلب منك قدراً قليلاً من التضحية بوقتك، براحتك، بمصالحك الشخصية، برغباتك بشهواتك، في سبيل تعبئة كل طاقاتك وامكانياتك وأوقاتك لأجل الرسالة. أين هذه التضحية من تلك التضحية العظيمة التي قام بها الإمام الحسين عليه السلام؟ من تضحيته بآخر قطرة من دمه، بآخر شخص من ذرّيته، بآخر كرامة من كراماته بحسب مقاييس الإنسان الدنيوي؟! لا بدّ أن نعيش دائماً هذه التضحية، ونعيش دائماً مدلول هذا الدم الطاهر لكي يكون ثمن دم الإمام الحسين حيّاً على مرّ التاريخ